تأملات – جمال عنقرة – حلايب والفشقة .. قضيتان مختلفتان تماما

الخرطوم الحاكم نيوز
أبدا هذا المقال بأمرين مهمين حسمت أمرهما قديما، وقلت فيهما قولا قاطعا، لكنني أجده مهما جدا ذكرهما قبل ذكر أي شئ في هذا الموضوع، أولهما علاقتي بمصر، ويحضرني في هذه اللحظة موقف لسفيرنا الراحل المقيم البروفيسور أحمد عبد الحليم (عم أحمد) قال له مرة أحد المتحدثين في لقاء عام، علي أيام الديمقراطية الثالثة، قال له (أنت من سدنة مايو) فرد عليه عم أحمد (أنا ما من سدنة مايو، أنا من كهنة مايو) وبهذه المناسبة أجدد القول أني لست مجرد متعاطف مع مصر، ولا متعاونا معها، ولا حتى من عملائها كما يزعم البعض، فأنا من مصر، ومصر منى تجري في عروقي كما يجري الدم، ولعلها جزء من دمي، أما الأمر الثاني، وكان أخي الأستاذ بكري المدني عندما استضافني في برنامجه المثير للجدل في قناة أم درمان المثيرة للجدل (مثيرون للجدل) فبعد أن تحدثت له عن علاقاتي وصلاتي واتصالتي في مصر بدون تحفظ، وبدون رتوش، جمع كل قواه وسألني (حلايب سودانية ولا مصرية) وبدون تفكير، وبلا تردد قلت له (حلايب سودانية) وهذا هو الأمر الثاني الذي أود أن أبدأ به الحديث، وهو سودانية حلايب، والتي ليست محل نزاع في نفسي، ولا في نفس أي سوداني مهما كان حبه لمصر، ومهما كانت علاقته مع مصر.
وبالعودة لموضوع المقال، فنجد كثيرين يربطون ربطا مخلا بين مسألة الفشقة، وبين قضية حلايب وشلاتين، وقد يفعل ذلك بعضهم بحسن نية، أو عدم معرفة، أو قلة حصافة، وقد يكون خبثا ومكرا ودهاء، وكله لا يجوز في هذا المقام، ولا في هذا الظرف الاستثنائي، ولو فرضنا جدلا أن السودان مطلوب منه موقف قوي وحاسم تجاه قضية حلايب مثل هذا الموقف الذي وحد الوجدان والمشاعر تجاه الفشقة، فهل من الحكمة أن يفتح السودان جبهة أخري للصراع، وهو الآن في مواجهة كل مالاتها محتملة، هذا فضلا عن أن قضية حلايب تختلف تماما عن قضية الفشقة، وأن مصر وإثيوبيا ليستا سيان بالنسبة للسودان، ولا أقول ذلك من واقع علاقتي مع مصر التي أشرت إلى بعض ملامح عمقها، ولكن لا توجد بلد في الدنيا قريبة أو بعيدة، عربية أو إفريقية أو إسلامية أو غيرها، يجمعنا معها ما يجمع بيننا وبين مصر، وبين شعبنا، وبين شعب مصر، الذي هو أكثر من شقيق.
أما بالنسبة لقضية حلايب، ومن أجل تنشيط الذاكرة للذين يعلمون، ولعلم الذين لا يعلمون فلقد ظهرت أول مرة في العام 1958م علي عهد رئيس الوزراء الراحل السيد عبد الله بك خليل، وهو كما تعلمون كان من حزب الأمة، ففي ذاك العام كانت هناك انتخابات في مصر، وتم اعتماد حلايب دائرة انتخابية في هذه الإنتخابات، واحتج السيد عبد الله خليل احتجاجا قويا، وأمر الجيش بالتحرك نحو حلايب، وهنا تدخل كبار وزعماء السودان، السيد عبد الرحمن المهدي، والسيد علي الميرغني، والزعيم اسماعيل الأزهري، واتصلوا بالرئيس المصري الراحل الزعيم جمال عبد الناصر، وطلبوا منه إيقاف الإنتخابات في منطقة حلايب إلى حين الوصول إلى تسوية سلمية، وحل الخلاف حول ملكيتها، فاستجاب الرئيس جمال عبد الناصر علي الفور، وأمر بسحب لجنة الإنتخابات، وإلغاء دائرة حلايب، فخمدت نار الفتنة، وصارت حلايب بعد ذلك ورقة ضغط يستخدمها النظامان الحاكمان في القاهرة والخرطوم، لسبب آخر وليس لذاتها، فلم تظهر مسألة حلايب طوال فترة حكم الرئيس عبود، وطوال عهد الرئيس نميري الذي شهد استقرارا في علاقات البلدين لم تشهد قبله ولا بعده مثيلا، ولكنها عادت بقوة شديدة بعد محاولة إغتيال الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك عام 1995م، والتي أتهمت بعض عناصر النظام السابق بالمشاركة في التخطيط للعملية ورعايتها.
صحيح أن الأمور بعد ذلك بسنوات عادت أكثر من طبيعية بين النظامين الحاكمين آنذاك في السودان ومصر، بل إن بعض الذين كانوا متهومين بالضلوع في محاولة إغتيال الرئيس مبارك صاروا من القريبين، والمقربين إلى مصر، ولكن مع ذلك لم تتم تسوية موضوع حلايب، ولم تستجب مصر لكثير من النداءات السودانية لطي هذا الملف، وكان النظام السابق قد عرض عليهم جعل منطقة حلايب مدخلا لتكامل شامل بين البلدين، وأشهد أن الرئيس السابق المشير عمر البشير كان قد أوصي ثلاثة سفراء بعث بهم إلى مصر للتقدم في ملف علاقات البلدين بسقف مفتوح، هم السفراء الفريق أول ركن عبد الرحمن سر الختم، والدكتور كمال الدين حسن علي، والدكتور عبد المحمود عبد الحليم، وذات التوصية قال بها للسفير ياسر خضر، الذي لم يذهب بسبب قيام ثورة ديسمبر المجيدة، ومع ذلك لم تتحرك مصر في ملف حلايب، ولا في كثير من القضايا التي ترتبت علي محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك، ومن ذلك تأشيرة الدخول والإقامة والعمل بالنسبة للسودانيين في مصر، أو ما يعرف بالحريات الأربع، فعلي الرغم من مضي سنوات عدة علي توقيع هذا الإتفاق، وعلي الرغم من تنفيذ السودان لما يليه في شأن هذه الحريات إلا ما حدث من تراجع في شأن التأشيرة والإقامة بسبب بعض التوترات بين البلدين، وكان الأجدر أن يتم تنفيذ ذلك فورا بعد سقوط النظام السابق، لا سيما وأن حجة المصريين الكبيرة في شأن التأشيرة أن الجواز السوداني صار يحمله غير سودانيين، ومعلوم الآن أن الحكومة سحبت الجوازات من كل غير السودانيين، ولكن لم تغير مصر شيئا في ذلك، وأعتقد أنه صار عارا في جبين العلاقات السودانية المصرية وجود سودانيين عالقين في مصر لا يستطيعون العودة إلى ديارهم بسبب مخالفات شروط الإقامة، وبكثرة ما أعرف أستغرب لإقامة سودانيين في مصر هاربين وفارين من العدالة، وسواقط مجتمع من الجنسين، ومتهومين بفساد، ويعجز رموز أمثال الدكتور حسين محمد عثمان رئيس الجالية السودانية في مصر، والمدير المالي السابق لمنظمة العمل العربية عن الحصول علي إقامة في مصر، ولعلم الذين لا يعرفون الدكتور حسين، ولا أعتقد أنه يوجد سوداني أو مصري مهتم بملف العلاقات السودانية المصرية لا يعرف الدكتور حسين، فالدكتور حسين درس التجارة في جامعة الإسكندرية في سبعينيات القرن الماضي، وعمل بعد التخرج مباشرة في منظمة العمل العربية وكان مقرها في العراق في العام 1979م، ثم انتقل مع المنظمة إلى مصر عام 1991م، وظل مقيما فيها حتى تقاعده عن العمل بسبب بلوغ سن المعاش، وواصل إقامته فيها حتى اليوم، ويمتلك فيها أكثر من شقة، وله أكثر من حساب في أكثر من بنك، وبيته في شارع زكي عثمان في بين السرايات بالدقي قبلة لكل السودانيين الرسميين والشعبيين، فطلب الإقامة في مصر كما يطلبها كل السودانيين، وكما يطلبها عموم البشر في مصر أم الدنيا، وكتب له أكثر من سفير خطابات للخارجية وغيرها، وتحدث كثيرون – وانا منهم – مع أكثر من مسؤول بصفات شخصية، وحتى مساء الأمس لم تجد كل هذه الخطابات والاستجداءات والندءاءات، ولم يحصل الدكتور حسين علي الإقامة في مصر، وهو يستحق أن تؤتي إليه في منزله.
وفي تقديري أن مصر في حاجة إلى مراجعة سياستها تجاه السودان، فلقد خسرنا كثيرا في السودان بضعف الدور المصري أخيرا، وبتخليها عن كثير من أدواتها التي لا ينازعها فيها أحد، وفي مقدمتها وجودها في الوجدان السوداني، وكنت أتوقع أن يلفت ما حدث يوم حفل توقيع الاتفاق بين المجلس العسكري الانتقالي وقوي إعلان الحرية والتغيير، يلفت نظر مصر والمسؤولين المصريين إلى التغيير الذي حدث في الوجدان السوداني تجاه مصر أخت بلادي الشقيقة، ولعل الناس يذكرون كيف هتف الحاضرون وصفقوا لرئيس الوزراء الإثيوبي، وللوسيط الموريتاني، وفي المقابل لم يهتم أحد برئيس الوزراء المصري.
أقولها صراحة لقد خسرنا كثيرا في السودان بضعف الدور المصري أخيرا لصالح أدوار إقليمية أخري عربية وافريقية، ودولية، وخسرت مصر معنا أيضا، وقبل ذلك خسرنا كثيرا جدا بضعف وغياب الدور المصري في نيفاشا، وخسرت مصر مثلما خسرنا، وعلي عاتق مصر اليوم تقع مسؤولية وقف نزيف الخسارات الذي هد حيلنا، وأنهك قوانا، وإذا أرادت مصر أن تفعل ذلك عليها أولا أن تدرك أن السودان ليس مجرد ملف أمني علي طاولة خبراء ومسؤولين أمنيين مبعثرين، وأول ما تفعله في ذلك تمزيق كل الأوراق العالقة، وفي مقدمتها حلايب، والحريات الأربع، وهذه المسائل رغم تفاهتها لكنها عظيمة، تعيد إلى الوجدان ما سرق منه، ونعود نغني ثانية (مافيش تاني مصري سوداني نحن الكل ولاد النيل)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى