تأملات – جمال عنقرة – العسكريون .. وثورة ديسمبر

أحسب أني قد كتبت قبل ذلك أكثر من مقال، وبعناوين مختلفة عن هذا الموضوع، وقد أشرت إلى بعض قضاياه في مقالات أخري يأتي الحديث فيها عنه عرضا، إلا أن تعدد الرؤي المختلفة لوضع ودور الجيش في الثورة ماضيا أو مستقبلا استوجبت هذا المقال المركز علي المسألة بعينها. وأكثر موقفين ورأيين مختلفين ومتعارضين في هذا الشأن، هما أولا رأي بعض غلاة المحسوبين علي حاضنة الثورة السياسية قوي إعلان الحرية والتغيير (قحت) وهم الذين يزعمون أن العسكريين قد سرقوا الثورة، وحولوا مسارها، ويحملون المؤسسة العسكرية كل فشل حكومتهم الإنتقالية، وهؤلاء معلومون للجميع، ولقد تحدث بعضهم بهذا اللسان الغريب في مؤتمر الاقتصاد القومي الأخير، وثانيهما الذين يئسوا من قحت وحكومتها، ولم يعودوا ينتظرون خيرا فيها ولا منها، وهؤلاء يدعون العسكريين بإلحاح شديد لاستلام السلطة وتصحيح المسار، ولا أنفي وجود سياسيين بين هؤلاء، لا سيما المحسوبين علي النظام السابق، إلا أن ضيق المعاش، وصعوبة الحياة، وانقطاع العشم في هذه الحكومة، ويأس كثيرين من عموم أهل السودان وزهدهم في إصلاح يأتي من جانب هؤلاء جعل هذا التيار يتنامي، ويكاد يصير تيارا شعبيا، ولقد نقلت وسائل التواصل الإجتماعي مقاطع لأناس من عامة الشعب يقولون مثل هذا القول، وبعضهم يعقدون مقارنات بين هذه الحكومة، والحكومة السابقة، ودائما ما تكون المقارنة في غير صالح حكام اليوم.
ولنقف أولا مع المتهمين للعسكر بالسطو علي ثورة ديسمبر، وأقول في البدء علي الرغم من أن الجيش السوداني ظل نصيرا لكل الثورات الشعبية، سواء في أكتوبر 1964م، أو أبريل 1985م، فإن دور الجيش في ثورة ديسمبر كان أعظم من دوره في الثورتين الظافرتين السابقتين، أكتوبر وأبريل، ففي ديسمبر لم يكتف الجيش بالانحياز للشعب، كما فعل في أكتوبر وأبريل، وإنما شارك في صناعة الثورة، ويزعم البعض أن بعض القيادات العسكرية والأمنية أوحت إلى بعض قادة المعارضة بالتوجه نحو القيادة العامة للقوات المسلحة، ويسرت لهم سبل الوصول إليها، وهذا ما يجعل بعض قادة ومنسوبي النظام السابق يتهمون بعض القيادات الأمنية والعسكرية بخيانة النظام، لا سيما الذين كانوا محسوبين علي النظام، ولو صح هذا الجانب من الحديث أو لم يصح، فالثابت أن كل القيادات العسكرية رفضت فض اعتصام الثورة بالقوة، والذي يزيد من دور العسكريين في ثورة ديسمبر، أن الوقوف الإيجابي مع الثورة والانحياز لها لم يقف عند الجيش وحده، وإنما شمل كل الجهات العسكرية والأمنية، الجيش والشرطة، والأمن والمخابرات، والدعم السريع، لذلك فإن أي ادعاء بأن العسكريين قد سرقوا الثورة، فهو ادعاء باطل، بل إن كثيرين يعتقدون أن تراخي العسكريين، وحرصهم الزائد علي التوافق مع المدنيين هو الذي أضاع معالم الثورة ووضعها في مهب الريح.
ومهما يكن الحال، فإن إصرار بعض منسوبي قحت علي شيطنة العسكريين يضعف الثورة وقد يقود إلى هزيمتها، وأعتقد أن أحاديث الفريق الأول محمد حمدان دقلو (حميدتي) المتكررة في شأن شركائهم، أو بالأصح الممسكين بالجهاز التنفيذي، وما تحمل هذه الأحاديث من معان سالبة، أحسب أنها تكشف عن حالة احتقان قد تقود إلى ما لا يرضي كثيرين، وما يقوله السيد حميدتي يسكت عنه كثيرون، وطبيعة الرجل تذهب بالذي في قلبه إلى لسانه، أو أنه قد فاض به قبل كثيرين من أخوانه ورفقاء دربه، ذلك أنه كان الأكثر أملا، أو لأنه كان الأكثر عطاء، فقوبل عطاءه بجحود ونكران أكبر منه، فقال ما قال، ومعلوم أن حميدتي (لا يهمه تلت التلاتة كم) وارجو أن يستوعب عقلاء قحت هذه الرسالة قبل فوات الأوان، فكثيرون من أهل السودان يأملون في أن يكون تصحيح مسار الثورة من داخلها، ويرجونه تصحيحا يقود إلى استكمال الفترة الإنتقالية، وتحقيق مطلوباتها، وانجاز مهامها، وهذا لن يحدث ما لم يرجع الشاطحون عن أفكارهم التي لا يسندها منطق ولا يدعمها دليل، ويتعاملون مع العسكريين علي أساس أنهم شركاء أصيلين في الثورة، وليس دخلاء عليها، ناهيك عن أن يكونوا سارقين لها.
أما بالنسبة للذين يطلبون من العسكريين التدخل، ووضع حد لمغامرات بعض الذين يعبثون بالبلاد بمزاعم ما أنزل الله بها من سلطان، حتى أوشكوا أن يوردوا البلد موارد الهلاك، فهؤلاء أعمتهم المصائب التي يعيشون فيها عن حقيقة إدراك الواقع الدستوري والسياسي الآن، فالعسكريون لم يعودوا قوة معزولة، فبالواقع هم شركاء أصيلون في صناعة الثورة، وبالوثيقة الدستورية هم الجناح الأهم في المجلس السيادي في هذه المرحلة، وتأتي أهميتهم من قيادتهم لمجلس السيادة علي مستوي الرئيس ونائبه الأول، وهم الممسكون بالملفات الأهم مثل السلام، والاقتصاد، وهم الأكثر وصلا وتواصلا وقبولا، داخليا وخارجيا، شعبيا وصفويا، لذلك فهم لا يتحركون بمعزل عن شركائهم، ولا يخرجون علي الوثيقة الدستورية، ولا يخرقونها، إلا أن هذا لا يسقط عنهم المسؤولية الأولي والأكبر في تصحيح المسار، ولكنه تصحيح يكون وفق منظومات السياسية والحكم، ووفق روح ونصوص الوثيقة الدستورية، فالمطلوب من القيادات العسكرية أن يقودوا شركاءهم المدنيين، في الحاضنة السياسية، وفي الوطن عموما إلى توافق يجنب البلاد الوقوع في المزالق، فإن عز علي الناشطين من شركائهم الذين لم يستوعبوا بعد التحول من الثورة إلى الدولة، فلن يعز ذلك علي شركائهم في مجلس السيادة، الذين أثبتوا وعيا متقدما، ووطنية متجردة، فإن عز الإصلاح عبر الحاضنة السياسية، فلتفعله الحاضنة الدستورية للثورة، ونتحدث في مقالات قادمة بإذن الله تعالي عن مطلوبات الإصلاح والتصحيح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى