
«المدينة الحديثة مرآة هشّة للهوية، يكفي أن تُكسر مرة حتى يصعب ترميمها.» — زيجمونت باومان
بعد أكثر من عامين من حرب لم ترحم بشرًا ولا حجرًا، تحوّلت مدن السودان الكبرى من فضاءات حياة إلى مدن ميتة، تُفرَّغ من سكانها وتُمحى ذاكرتها. الخرطوم والفاشر ونيالا ومدني وزالنجي لم تعد أماكن تعج بالحياة، بل صارت مشاهد حيّة لطمس هوية بلد كامل. ما يجري ليس دمارًا عابرًا، بل أشبه بعملية تطهير عمراني ومحو ديموغرافي يهدد جوهر السودان كأمة ومجتمع.
الخرطوم دفعت الثمن الأكبر خلال هذه الحرب. أكثر من 80% من سكانها نزحوا، أحياء بأكملها أُفرغت، وسوق أم درمان التاريخي أُحرق. المتحف القومي ودار الوثائق القومية ومكتبات جامعة الخرطوم تعرضت للنهب، فيما أصاب القصر الجمهوري والبرلمان القديم القصف المباشر. خلال الشهور الأولى انهارت المدينة أمام موجة من الفوضى، لكن القوات المسلحة السودانية تمكنت من استعادة السيطرة تدريجيًا، حتى باتت العاصمة اليوم تحت قبضتها الكاملة. ومع ذلك، لم تعد الخرطوم كما كانت؛ فهي مدينة شبه خاوية، فقدت روحها ورمزيتها، وباتت تمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة السودانية على إعادة إنتاج ذاتها بعد أن تحولت إلى مدينة جريحة.
وكما قال بول ريكور: «الذاكرة ليست فقط تذكّر الماضي، بل هي أساس الهوية الجماعية التي تربط الأحياء بالأموات وبالذين لم يولدوا بعد.»، فإن تدمير دار الوثائق والمتحف القومي لم يكن مجرد نهب، بل ضربة مباشرة لذاكرة بلد بأكمله.
لكن الخرطوم لا تواجه التحدي وحدها. تقديرات البنك الدولي والأمم المتحدة تشير إلى أن إعادة إعمار العاصمة وحدها قد تتطلب ما بين 15 و20 مليار دولار، بعد أن تعرض أكثر من 70% من المباني الحكومية للضرر أو التدمير. إعادة تأهيل جامعة الخرطوم والمتحف القومي ودار الوثائق تحتاج وحدها إلى نحو مليار دولار. وفي دارفور، تشير التقارير إلى أن 60% من المرافق الصحية تضررت، وأن الأسواق المركزية مثل سوق الفاشر ونيالا تحتاج إلى استثمارات تتجاوز 500 مليون دولار لإعادة تشغيلها. أما مشروع الجزيرة الزراعي في مدني، فقد خسر مخازنه وآلياته، وتُقدّر خسائره بأكثر من 3 مليارات دولار، فيما تحتاج الأبيض إلى ما لا يقل عن مليار دولار لإصلاح شبكاتها الأساسية. وبصورة أشمل، تُقدَّر الخسائر المباشرة للحرب بأكثر من 50 مليار دولار، مع توقف 70% من المدارس وخروج 80% من المستشفيات عن الخدمة.
وفي الحقيقة، الصورة أوضح ما تكون في دارفور. الفاشر تختنق تحت حصار خانق، حيث صار الخبز معركة يومية والجوع سلاحًا أشد فتكًا من الرصاص. قوات الدعم السريع لا تكتفي بالحصار، بل تسعى لإفراغ المدينة من سكانها الأصليين وإحلال آخرين مكانهم، في ما يشبه عملية محو ديموغرافي غير مسبوقة في إفريقيا الحديثة. سوق الفاشر الكبير أُحرق، جامعة الفاشر ومستشفاها التعليمي تعرضا للنهب، ومطار المدينة شُلّ بالكامل. الباحث أليكس دي وال وصف هذا الواقع بدقة حين قال: «في السودان، غالبًا ما يكون الجوع سلاحًا مقصودًا أكثر من كونه نتيجة عرضية للحرب.»
أما نيالا، فقد تحولت إلى مدينة منكوبة. سوقها المركزي دُمّر، جامعة نيالا أصابها الخراب، والمستشفى التعليمي اقتُحم. يروي أحد الأطباء أن المرضى أُجبروا على مغادرة أسرتهم بعدما اقتحمت الميليشيات المكان. المدينة التي كانت مركزًا تجاريًا نابضًا بالحياة، صارت مغطاة برماد الحرب. وزالنجي لم تعد موجودة تقريبًا، بعدما تحولت أحياؤها إلى ركام، لتصبح مثالًا صارخًا على الخراب الذي لم يعد استثناءً في دارفور، بل القاعدة.
دمار قوات الدعم السريع لم يقتصر على الحجر، بل طال التاريخ والإنسان معًا. نهب المتاحف والوثائق الوطنية لم يكن مجرد استيلاء على ممتلكات، بل عملية مقصودة لمحو ذاكرة السودان. وحين أُفرغت المدن من سكانها أو وُضعوا تحت حصار التجويع، لم يكن الهدف عسكريًا فقط، بل تحطيم الإنسان ذاته. كما كتب الطيب صالح: «البلد ليس هو الأرض وحدها، وإنما الناس والتاريخ والذاكرة.»، وهذا بالضبط ما سُلب من الخرطوم ودارفور.
مدني، عاصمة الجزيرة، والتي كانت تُلقب بـ”قلب السودان الزراعي”، لم تسلم هي الأخرى. جامعة الجزيرة تعرضت للتخريب والنهب، مستشفى ود مدني أصابه الدمار، سوقها الكبير أُحرق، ومخازن مشروع الجزيرة الزراعي نُهبت. لم يكن الهدف عسكريًا فقط، بل ضرب الأمن الغذائي للبلاد. تقارير الأمم المتحدة أشارت إلى أن أسعار الغذاء في بعض المناطق ارتفعت بأكثر من 300% نتيجة تدمير الأسواق وتعطيل الزراعة.
أما الأبيض، فقد باتت على خط النار. موقعها الاستراتيجي يجعلها بوابة بين الغرب والوسط، والسيطرة عليها ليست مجرد احتلال لمدينة، بل إعادة لرسم موازين القوى في البلاد.
وليس هذا جديدًا على السودان. ففي عام 1885، سقطت الخرطوم بعد حصار المهدي، وكان سقوطها إعلانًا لنهاية الحكم التركي–المصري. واليوم، بعد أكثر من قرن، يتكرر المشهد بصورة أكثر قسوة؛ الخرطوم مرة أخرى مسرح لانكسار الدولة، لكن هذه المرة على يد ميليشيا محلية استهدفت هوية البلد.
وما يحدث في السودان يجد صداه في أماكن أخرى. بيروت استعادت عمرانها بعد الحرب لكنها فقدت روحها، سراييفو رممت مبانيها ولم تبرأ من ندوب الحصار، حلب صارت أطلالًا، غزة دفعت ثمن الدمار مرارًا، وماريوبول الأوكرانية صارت أحدث مثال على قتل المدن لإعادة رسم الخرائط. وكما كتبت حنة أرندت: «تدمير المدينة هو تدمير المجال العام الذي يجعل السياسة والحياة المشتركة ممكنة.»، فإن فقدان الخرطوم وبقية مدن السودان يعني انهيار الفضاء العام للحياة المشتركة.
القانون الدولي يضع هذه الأفعال في خانة الجرائم الكبرى: استهداف المستشفيات والجامعات والمتاحف يُعد جرائم حرب وفق اتفاقيات جنيف، بينما التهجير القسري والتغيير الديموغرافي جرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم. ميرسيا إلياد وصف ذلك بقوله: «فقدان المكان المقدس يعني سقوط الإنسان في فوضى بلا جذور.»، وهو ما يعكس حجم الكارثة حين تُفقد المدن ذاكرتها.
لكن الأمر لا يخص السودان وحده. فخراب مدنه يهدد بتمدد الفوضى في القرن الإفريقي والساحل، عبر موجات نزوح وتهريب واقتصاد حرب إقليمي. إن محو المدن السودانية ليس مأساة محلية فقط، بل خطر استراتيجي على المنطقة بأكملها.
اليوم يقف السودان أمام سؤال مصيري: إذا تغيّر سكان المدن وتغيّرت ذاكرتها، فهل تبقى المدن سودانية؟ قد تُبنى أبراج وأسواق جديدة مكان الركام، لكن إذا بقيت بلا أهلها وبلا ذاكرتها، ستظل مدنًا بلا روح. وكما قال عبد الله الطيب: «المدن ليست حجارة، وإنما وجوه وأصوات وأحلام؛ فإذا رحل الناس رحلت المدينة معهم.»
التحدي الأكبر إذن لا يتعلق بالحجر فقط، بل بالسؤال: من سيقود إعادة الإعمار؟ هل يفرض المجتمع الدولي رؤيته، أم يستعيد السودانيون زمام المبادرة لإعادة بناء مدنهم وذاكرتهم بأيديهم؟
المدن يمكن أن تُبنى بالحجر من جديد، لكن الهوية لا تُبنى إلا بالذاكرة… والسؤال: من سيعيد للذاكرة السودانية حقها في الحياة؟
⸻
د. عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق أفريقيا والسودان في مركز فوكس للأبحاث – السويد
باحث متخصص في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب