أخر الأخبار

ضل التاية -بروفيسور ابراهيم محمد آدم – بروفيسور أبو القاسم قور- كان بدري عليك

ربما في هذا المقال لن أجد انسب مما كتبه عنه في حياته قبل نحو عامين تقريباً أحد اقربائه الصديق المشترك والرجل المهذب الذي يمثل اخلاقاً تمشى على ساقين الدكتور محمد يعقوب محمد أستاذ علم الاجتماع بجامعة أم درمان الاسلامية والأمين العام الأسبق لمجلس الولايات وقد كان عنوان المقال (أبو القاسم قور فقيه الدور محقور) فقد ارسل لي مسودة المقال فقمت بنشرها حالاً في العديد من الصحف والمواقع الاليكترونية ويمكن للقارئ البحث عنها للاستزادة .
وكنت قبل معرفته شدني الى لقاءه ما كتبه عنه أيضاً الباحث الامريكي الزنجي عبده مالك عليم فوددت ألو التقتيه، وعندما سردنا مع بروفيسور قور تلك المعلومات لاحقاً ربطها لي بحقائق أخرى كان حريصاً على عدم الخوض في تفاصيلها. المهم أن أول لقاء لي به كان قبل اكثر من عشرين عاماً اثناء اجرائي دراسة عن ثقافة السلام وقد كان هو أول المتخصصين فيها وقد انشأت جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا مركزاً لذلك جعلته على رأسه مثل المراكز التي قامت في جامعات أخرى وإن تخصصت في دراسات السلام بصفة عامة مثل جامعة جوبا ثم جامعة الخرطوم وتبعتهما جامعات أخرى لاحقاً فكثرت المراكز ولم يكثر السلام .
تواصلت اللقاءات معه بعد ذلك في المنتديات العلمية داخل السودان وخارجه وقد كانت مشاركاته متميزة تتسم بالحياد والأمانة العلمية والاعتداد بالرأي مما سبب له في كثير من الأحيان تباينات مع العديد من الأفراد والمؤسسات ولكنها لم تقطع وداً، فهو يستدعي الفكاهة والمزاح في اقسى ساعات الضيق، وكانت احاديثه تحكي مسرحاً قائماً بذاته مثل المسرح التنموي الذي طاف به في محلية أبيي مسقط رأسه.ومن المفارقات انه كان لاذع النقد للعديد من المؤسسات أيام حكومة الإنقاذ وبعد سقوط نظام الانقاذ استهدفته ما يسمى بلجنة ازالة التمكين سيئة الذكر ففصلته من عضوية هيئة التدريس بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا حتى اعاده القضاء العادل لسلك الوظيفة مرة أخرى وهي تلك الوظيفة التي لم يخرج منها سوى بالسكن المؤقت في بيت حكومي لا يقوى على السكن خارجه وبسيارة متهالكة غير معروف مصيرها الآن بعد غدر الجنجويد داء العصر.
وعندما تم اقتلاعنا من جذورنا واضطرتنا مجبنة الخوف على الأطفال ان نخرج لنؤمن لهم حرماً آمناً قبل أن نفكر في كيفية الدفاع عن البلاد بالوسائل التي نعرف كان الاتجاه صوب قاهرة المعز ، وهناك دن سابق موعد التقيت به في مكتب المستشار الثقافي بسفارتنا بالقاهرة الدكتور مرتضى علي عثمان برفقة الدكتورة سهير شلبي الأمين العام لمؤسسة المبدعين العرب والتي للبروف تواصل معها حين كلف من قبل جامعة الامم المتحدة للسلام بالتأسيس للبرنامج العربي فقضى فترة الفصل التعسفي من الجامعة متردداً على القاهرة ودار السلام في تنزانيا لذلك أراد أن يواصل في ذات الأنشطة عبر تلك المؤسسة وبالفعل كان اول نشاط هو مشروع ارساء ثقافة السلام وسط قيادات الإدارة الأهلية خاصة الذين كانوا في القاهرة فنظم دورتين تدريبيتين استهدفتا نحواً من ثمانين من أمراء ونظار وشيوخ ووكلاء نظار القبائل كان لي شرف المشاركة في التدريس فيهما الى جانبه والأخ الدكتور محمد يعقوب وقد تولى ابنه المهندس محمد مهمة جمع المادة وعرضها على الوسائط الاليكترونية واعداد الشهادات للدارسين.
أصبح بعدها منزله مقراً للقاءات الاكاديمية والعلمية بل كانت جلسات صفاء يزينها ويجملها بعزفه المنفرد على آلة العود المفضلة لديه وكان يطلب منا مثل تلاميذ الجمعية الأدبية أن نردد ما نحفظ من مدائح نبوية واغاني وطنية فنقول نحن قد هرمنا وجفت أذواقنا وتحجرت مشاعرنا،وماذا تجدي الموسيقى وغزير الدموع في زول عواطفه تحجرت. ولكن هكذا بروف ابو القاسم يحمل قلب طفل مثل حفيده محمد من ابنته غالية ، وفي غمرة تلك الفكاهات تلك يعتصره الالم فجأة فيقول ليتني كنت الآن حاملاً بندقيتي مدافعاً عن البلاد ووحدتها وهيبتها.
أذكر ذات مرة اتصل علي فجأة ليلاً وسألني أين أنت وهل تعشيت ولحسن الحظ كنت خارج بيتي وقريباً منه فقال لي أنا لم آكل منذ يومين وأريد ان تخرج معى لنتعشى خارج البيت، فقد كان لديه التهاب امعاء كثيراً ما منعه من الاكل فقلت له انا قد تغديت تواً في مناسبة فاصر علي ، سرنا مشياً لمسافة بعيدة ثم تذكر أنه لم يحمل مبلغاً ولسوء الحظ لم أكن أنا أيضاً أحمل مبلغاً لتسعفه بطاقة الصراف الآلي التي كانت في حافظته فانفجرت أنا ضاحكاً أيها البرجوازي الصغير حساباتك بالعملات الأجنبية خارج البلاد فأجابني الجنيه المصري ليس عملة أجنبية ولا تنس أنني كنت موظفا دوليا هنا، كنت فعلاً لا استطيع الأكل فاقتصر دوري على المؤانسة بعد ان ضحكنا كثيراً تلك الليلة على حكاوي ومقالب عاشها في بلاد كثيرة فهو كثير التسفار ويركز على ثقافة الشعوب في الغذاء والغناء والموسيقى وفض النزاعات ويربط كل ذلك بأن يجعل الجودية السودانية في المقدمة وتظهر عنده فجأة عقب كل حديث مثل ظهور مصطفى السعيد في رواية موسم الهجرة إلى الشمال لعبقري الرواية العربية الطيب صالح. وقد قال انها تدرس الآن في العديد من الجامعات كأسلوب فض منازعات وطريقة مصالحات .مثل تلك اللقاءات الثنائية أو الجماعية استمرت طوال الأعياد والمناسبات الاجتماعية التي قضيناها في الشقيقة مصر وقد كان زواج ابنه محمد استفتاء على عمق علاقاته بفئات اجتماعية مصرية مختلفة .
بعدها فكرنا معه والدكتور ياسر حسن ساتي الخبير الاممي واستاذ الاقتصاد الزراعي في جامعة زالنجي والدكتور محي الدين حيمير خبير الأمم المتحدة في مجال السلام بان وقعنا شراكة بين مركز ثقافة السلام وحقوق الانسان الذي اسسه ورأسه الفقيد ومنظمة عافر وقد عقدنا عدة اجتماعات بهذا الخصوص واعددنا ورقة عمل ضافية باللغة الانجليزية وفق أطر الأمم المتحدة لكن انعدام التمويل اضعف تنفيذ الفكرة الجميلة والمتعلقة بالانتقال بثقافة السلام الى جذور المجتمع عبر الإدارات الأهلية ذاتها والتي بنفس القدر الذي ساهمت فيه في فض النزاعات وحفظ السلام ماضياً وحاضراً كان للبعض منها دوراً سالبا جداً في تأجيج الصراع الحالي بعقلية الجاهلية الأولى.ذات المشروع إعدنا طرحه مرة أخرى بواجهة جديدة مع جهات حكومية ولكنه واجه نفس العقبات تارة أخرى.
فكرنا لاحقاً في توسعة المظلة بأن تشمل المشاركة في الحوار السوداني من قبل اساتذة الجامعات والمعاهد العليا وفي تلك الأيام نشط الأمير جمال عنقرة في تأسيس الجبهة الشعبية السودانية التي لم يكتب لها الاستمرار طويلاً رغم بدايتها القوية . كان منزلي مقراً لتلك اللقاءات التي نتج عنها وضع الورقة المفاهيمية المؤسسة للجبهة ونظامها الأساس باللغتين العربية والانجليزية. ولاحقاً استأجر البروف مكتباً بشارع السودان بالعجوزة استضاف العديد من الانشطة بذات الهمة العالية وقد كان البروف عبره من المساهمين في إعداد مسودة المشروع السوداني للسلام الاجتماعي والذي ابتدره السلطان الدكتور عثمان محمد يوسف كبر الوالي ونائب رئيس الجمهورية السابق وأمينه العام الدكتور محمد يعقوب محمد علي الذي كان الدينمو المحرك لكل العمل التنفيذي في هذا المشروع وقد شارك في تدشينه اكثر من ستمائة مختص في الشأن العام ولا يزال المشروع يتلمس خطى التنفيذ.
وللمواصلة في ذات الجهد في مجال ثقافة السلام فقد خصصنا لها ثلاث حلقات متتاليات من برنامج عمق المستقبل على تلفزيون السودان والذي كنت اقدمه بعد اعتذار السفير الحسن العربي عن المواصلة في البرنامج وكان تحت اشراف وإخراج الأخ نصر الدين غطاس ، في تلك الحلقات ابدع البروفيسور قور وسكب علماً غزيراً واستفاد المشاهد جداً من معلوماته فقد قمنا بقياس ذلك الأثر من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والتعليقات المصاحبة لكل حلقة ولا تزال تلك الحلقات مثبتة على صفحات تلفزيون السودان على شبكة الإنترنت رغم توقف البرنامج لاحقاً لأسباب مالية ونأمل ان نتمكن من اعادة بثه من جديد.
إن كل ما اشرنا اليه من جهد يوضح أن مسيرة البروف كانت حافلة بالبذل والعطاء في الشأن العام حتى آخر لحظات حياته كما أشار إلى ذلك البروفيسور عبد اللطيف البوني الذي يشاركه تلك الاهتمامات.
اللهم انا لا نملك سوى الرضاء بقدرك فانت ماض فينا حكمك عدل فينا قضاؤك ولكننا نسألك أن تجعل اخينا البروفيسور أبو القاسم في مقعد صدق مع الصديقين والنبيين والشهداء والصالحين في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ( إنا لله وإنا اليه راجعون).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنا عشر + 9 =

زر الذهاب إلى الأعلى