بروفيسور إبراهيم محمد آدم يكتب أيها الإنجليز لكم في نصبنا نصيب(3-5)  

إن عبء الرجل الأبيض الذي أشرنا إليه في مقالنا السابق  لا يزال الإنجليز والأمريكان يعتقدون أنهم يقومون به ويطالبون العالم أن يتجاوب معهم فيه ويستنكرون أي كراهية لهذه المسلَمة وقد أورد ذلك جلياً الأكاديمي والإعلامي الأمريكي فريد زكريا وأنا من المراقبين لكتاباته في الاسافير، ومن المتابعين كذلك لبرنامجه (Zacharias’ GPS   )على قناة ( C N N ) الأمريكية. وفريد زكريا  لِمَن يدهشهم اسمه العربي  هندي الأصل يحمل الجنسية الأميركية بعد أن هاجر إليها طفلاً مع والديه، ودرس في أكبر جامعاتها، جامعة ييل التي حصل منها على شهادة بكالوريوس في التاريخ، وجامعة هارفارد التي يحمل منها درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية، وتشرب زكريا تماماً بقيم الغرب وأصبح يدافع عنها،مثله مثل المتعلمين السودانيين أيام الاستعمار البريطاني والذين عمقت فيهم مؤسسات التعليم الحديث الأمر الواقع الاستعماري على وجه التحديد، ويقيم فريد زكريا في مدينة نيويورك هو وزوجته وابنه وابنته.ويقدم زكريا كذلك برنامجاً لمحطة تلفزيون (B B S )بعنوان التبادل الخارجي ويتميز هذا البرنامج بمحاولة عرض وجهات نظر غير أميركية للمشاهد الأميركي.
 وفي مقال نشر مترجماً في مجلة نيوزويك  بالعربية صادر في نهاية سبتمبر عام 2001 بعد حادث تفجير مبنيي البنتاغون ومركز التجارة العالمي وقد كان عنوانه ( لماذا يكرهوننا )  خلص زكريا  إلى أن أميركا مستهدفة لأنها حاملة للواء الحضارة والمدنية في عالم يرزح تحت نير التخلف،وعند الإنجليز والأمريكان فإن  الليبرالية و الديمقراطية تتناقضان مع ما يسمونه الإسلام السياسي فالديمقراطية والليبرالية في أميركا والعالم، هما المحوران الرئيسيان لكتاب مستقبل الحرية، لفريد زكريا حيث يتساءل في هذا الكتاب  “لماذا تعد هذه المنطقة العربية والإسلامية الحالة السياسية الغريبة للعالم؟ لماذا ترفض الامتثال، وتشرد عن مسار المجتمعات الحديثة، ذلكم  لأن الحداثة في نظر الغرب اقتفاء قيمه الخاتمة للتاريخ كما خلص إلى ذلك فرانسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ وخاتم البشر )،وفي معرض مناقشته لهذه التساؤلات، ينفي زكريا أن يكون الإسلام هو السبب في ذلك، ويصف الدين الإسلامي بأنه مسحة مناهضة للاستبداد تتجلى بوضوح في كل ديار الإسلام اليوم، لكنه مع ذلك أدان الإسلاميين  فهم – على حد قوله – يستغلون الدين في تحقيق أهداف سياسية، وهو محق في ذلك فالدين عند الإسلاميين لا ينفصل عن السياسة وفق نصوص القرآن ذاته والذي يقول ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ( المائدة: 44 ) و ) فأولئك هم الظالمون ) ( المائدة : 45) ( و (فأولئك هم الفاسقون ) [ المائدة : 47( وزكريا لا يخفي قلقاً من وصولهم إلى الحكم في ظل انتخابات حرة ونزيهة، معتبراً كنهج الغرب أن حكام العالم العربي الدكتاتوريين أكثر ليبرالية من الإسلاميين .
وعلى ضوء ذلك يرى زكريا دعم الولايات المتحدة والغرب لتطبيق النظم الحاكمة في العالم العربي لليبرالية الدستورية دون الضغط عليها لإجراء انتخابات. والليبرالية الدستورية هنا تعني إبعاد الدين عن السياسة بقدر الإمكان أو الإبقاء على الشكليات، وسيكون لهذا نتائج أفضل من دفعها لإجراء انتخابات قد تأتي بمن هم أكثر استبداداً وتصادماً مع الغرب وقيمه، وهو يشير هنا إلى التيار الإسلامي .
مرد ذلك أيضا إلى أن الغرب يعلم تماماً تأثير الدين الإسلامي على الحياة السياسية في المجتمعات المسلمة حتى في سنوات الاستعمار ويمكننا هنا الإشارة إلى مقال البروفيسور والخبير في الشأن السوداني والأستاذ بجامعة حيفا بفلسطين المحتلة، جبريل واربورج والذي نشر في مجلة دراسات الشرق البريطانية في عددها الثالث والثلاثين عام 1997م  عن سياسة المستعمر البريطاني تجاه الأنصار  حيث قال : إنه من السذاجة تصور أن حاكماً مسلماً (ويشمل هذا إبن المهدي وغيره)، يمكن له أن يتخلى عن رسالته الدينية وطموحه السياسي فهما (توأمان أيدلوجيان لا ينفصلان)، وأن محاولات صغار رجال المخابرات البريطانية في بواكير سنوات الاستعمار لفصل الإسلام عن السياسة كان خطأً عظيماً في السودان وفي غيره من البلاد الإسلامية الأخرى، وكدليل على ذلك أشار المؤلف إلى طائفة الختمية ( والتي عدها المستعمر مثالاً للطائفة الدينية المسالمة التي لا ناقة لها ولا جمل في السياسة) والسيد علي الميرغني ( والذي حسبه البريطانيون مثالاً للقائد المسلم غير السياسي) فاجأ الحكم الثنائي وقفز إلى عربة السيرك في الوقت المناسب.
وفي تناولنا لهذا  الموضوع كذلك لا بد من الإشارة إلى كتاب صديقنا السفير خالد موسى دفع الله والذي تمت إعادته مؤخراً للخدمة بوزارة الخارجية بعد أن كان أحد ضحايا لجنة التمكين، وأمثال السفير خالد تتزين بهم الخارجية بدلاً عن التشفي بهم بذات دوافع الحقد والحسد موضوع المقال، وخالد شخص يذكرني بسيرة السفراء جمال محمد أحمد وبشير البكري وآخرين، ففي كتابه ( اللامنتمي في أدب الطيب صالح) الصادر عن دار جامعة الخرطوم للنشر عام 1993م  قد أجرى مقاربة بين فكر كولن ويلسون الذي تبنى مشروع معرفي ناقد لفكرة الحضارة الغربية  والطيب صالح الذي حاول بلورة دراسة معرفية تناقش قضايا التطور والصراع والمدنية والسلطان، وقد أفاد خالد أنه وجد تقارباً كبيراً بين مشروع ويلسون المعرفي لنقد فكرة الحضارة، وأفكار الطيب صالح في ذات الموضوع ، وربما خلص الاثنان إلى أن الأوربيين هم السبب فيما حدث من تفكك للمجتمعات، ومن بينها المجتمع السوداني بانتقائهم شخصيات معينة لتولى زمام الأمور رغم ما بها من سلبيات مقصودة عناها الطيب صالح عندما قال في روايته ذائعة الصيت موسم الهجرة إلى الشمال  (أراذل الناس هم الذين تولوا المناصب الضخمة أيام الانجليز)،  وبالتأكيد فإن جلهم من أولئك الذين أتوا مع جيش الاحتلال أو أبناءهم وحفدتهم،  ففي تلك الرواية وصف صالح  مظاهر التفكك في المجتمع السوداني بدخول الإنجليز بعد دراستهم للمجتمع السوداني بواسطة بعض علماء الانثروبولوجيا أمثال هارولد ماكمايكل السكرتير الإداري البريطاني في السودان (1926-1934) وقد كان  كتابه بعنوان ( تاريخ العرب في السودان)، (جزاءان 1922م )، بالإضافة إلى كتاب هنري مين( المجتمعات الإفريقية) وكتابي ايفان برتشارد( النوير ) و  (الدينكا ).والمعروف أن الاستعمار قبل دخوله يبعث بعلماء الاجتماع لدراسة المجتمعات المستهدفة ، ثم يرسل المبشرين لتنصير السكان، وبعدهم التجار للسيطرة على الموارد والذين عليهم وفق دورهم المرسوم أن يستنصروا بالجيوش لتحميهم فهم مهددون وبذلك يكتمل الاحتلال، كما يقول الطيب صالح في إحدى رواياته ( لماذا تدخل أرضي لتخرب وتنهب )- الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض.
وفي تقديري أننا لم نوظف جيداً أدب الطيب صالح والكتاب والأدباء السودانيين الآخرين في التمسك بمفهوم الهوية السودانية المتميزة حتى لا نترك الباب للتدخلات السالبة للإنجليز وأمثالهم، ففي إفادة  أوردها طالب دكتوراة أمريكي في أطروحته المقدمة عن أعمال الطيب صالح لجامعة نيو يورك في عام 1979م نقلاً عن مقابلة أجريت مع الروائي الشهير ونشرت في مجلة الفجر بتاريخ 15/11/1976م قال الطيب صالح : ( خذ السودان على سبيل المثال، هذا بلد أفريقي وعربي ومسيحي ومسلم، كل هذا في ذات الوقت تجد في القرية السودانية مزيج من الأعراق، هنالك من أصوله عربية أو زنجية أو نوبية أو فرعونية، رغم اختلاف الأصول العرقية فإنهم يعيشون في انسجام وتناغم ووحدة عضوية، أما بالنسبة للدين ، فأنا مسلم اؤمن بوجود الله ولكن ليست لدي أي رغبة في إقناع الآخرين بما أؤمن به أنا شخصياً ، أؤمن بسعة الأفق والتسامح.نواصل
 
 
 
 
 
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى