الصوفية والتنمية.. الشيخ الطيب الشيخ برير نموذجاً – دكتور ياسر عثمان أبو عمار

الخرطوم الحاكم نيوز

للصوفية تاريخ ضارب الجذور في عمق المجتمع السوداني، ولشيوخ الطرق الصوفية أدوار كبيرة وعميقة في إشاعة التدين الوسطي، بلا غلو وتطرُّف ولا تفريط أو إفراط، وفوق دورهم المشهود في تذكية النفوس، وشحذ الهمم، وربط الناس بحبل الله المتين، كانوا _وما يزالون_ يمثلون التنمية الشاملة بكل أبعادها، والتي يُعد الإنسان أساسها ومحورها، فكم من قُرىً قامت وعمرت في بقاع السودان المختلفة وأطرافه النائية، مثّل الصوفية وأهل القرآن ركنها الركن، فتسمّت بإسمائهم، واتسمت بسمتهم، واكتست بعبقهم، فهوت إليها الأنفس طلباً للعلم والمعرفة، فكانت (المسايد والتكايا) قِبلة للباحثين عن الأمان النفسي والطعام الروحي، فأمّنوا الناس من الخوف وأطعموهم من الجوع، وبذلوا في سبيل ذلك، ثمين وقتهم وكرائم أموالهم، بل لهم القدح المُعلّى في إدخال الناس في دين الله أفواجاً بما التمسوه فيهم من قدوة حسنة وصحبة خيّرة ولين جانب، فغسلوا القلوب مما ران عليها من حظوظ الدنيا الغرّارة، فطهروها من الغل والحقد والحسد وملؤها بالتسامح والكرم والمحبة (الما عندو محبّة ما عندو الحبّة) وصدق أبونا الشيخ البرعي، صاحب الزريبة المنارة إذ يقول:
القوم بتجيك
من ناس بلجيك
لبنان ومصر ومراكش ديك
أكرمت الزائر والغاشيك
بنقود وتِبِر وكُبار الشيك
وما ذلك إلا لسان حال كل أهل التصوف ورجال القرآن في السودان، وما ينطبق على الزريبة ينطبق على غيرها من الطرق، وبخاصة الطريقة السمانية التي لها في خدمة الناس عرق، والحديث ذو شجون حول سجادة خور المطرق وما يقوم به الشيخ الطيب الشيخ برير الشيخ الصديق، الذي يحاكي مطر العافية أينما وقع نفع الله به البلاد والعباد.
الشيخ الطيب الشيخ برير الشيخ الصديق، خليفة الطريقة السمانية _ سجادة خور المطرق، حفيد دوحة طيبة، وسليل رجال أكارم خلّدهم التاريخ لحسن صنيعهم، لله در من قال فيهم:
نعم الدّارُم
زار السوح
ودخل دارُم
عمر وبرير
أنفقوا مالُم
للأيتام مع هُمّالُم
عمر وبرير
ولا غرابة في أن يعلّي الله قدرهم، ويرفع ذكرهم، فهم أهل الله وخاصّته، ولهم في قلوب الناس عشق خالد وحُب سرمدي، فظلت الألسن تلهج بالدعاء لهم، وتنظم فيهم قوافي الشعر الذي يستحقونه، فيقول شيخنا البرعي، رحمه الله :
أهل الحلقة الصاحت بالكرير
عجبوني التوم والبرير
الشيخ الطيب نشأ في كنف المسيد وتدفأ بنيران القرآن المتقدة منذ عشرات السنين، فتشبّع بتلك القيم الموروثة كابراً عن كابر، فقيّضه الله لحمل الراية وتمكين أركان الطريقة على هدى من الله وكتاب منير، فسار بتوفيقٍ من الله على درب الآباء والأجداد، فاحتمل الأمانة بحقها وأدّاها بحقها وزاد على ما بذلوه من وسعٍ بأن أدخل أبعاداً جديدة تزاوج بين الأصالة والمعاصرة في منهج التصوف ودوره في خدمة المجتمع، وقيل أن الشيخ العبيد ود بدر قال ذات مرة لجلسائه أن منهج المسيد سيتغيّر ليشمل جوانب أخرى حياتية ومجتمعية تسير جنباً إلى جنب مع الأدوار التقليدية، فقيل له ومن سيقوم بذلك؟ فقال: (طيباً لَيْ وطيباً لِي برير)، ولعله يعني الشيخ الطيب الجد في أم ضواً بان والشيخ الطيب الشيخ برير في خور المطرق، وقد صدقت نبوءة الشيخ العبيد، فللرجلين نظرة ثاقبة وعين بصيرة… فيه يقول الشيخ عبد الله الشيخابي :
يا مريد قوم زور
رجال الخور
الكرام الصفّهم منصور
سوحهم عامر
ضوّى لينا دجور
ديل كرام القوم
خيلهم بتدور
أرشدوا الضالين
وفكّوا للمأسور
على غير المألوف في منهج عمل أهل التصوف، اهتم الشيخ الطيب الشيخ برير بالتنمية الشاملة، فعمد لتعزيز البنية التحتية، فقام بتوصيل الكهرباء من شبشة إلى قرية خور المطرق التي تحولت بفضل الله ثم بجهوده لمدينة شامخة، ثم أنشأ محطة المياه بصهريج كبير، ثم اهتم بالتعليم فأنشأ مدارس الشيخ برير الأساسية بنين وبنات ثم الثانوية بنين وبنات، ثم مستشفى الشيخ برير التخصصي، ومركز الشرطة، وتوسيع الخلاوي والمسيد على أحدث طراز، وغير ذلك من الأعمال الإنسانية والخيرية الخدمية التي تجاوز بها حدود منطقته الجغرافية ليسوح في كل أنحاء السودان يبتغي وجه الله بتقديم هذه الخدمات التي تجاوزت الـ (50) مسجداً تُقام فيها الجُمع والجماعات، وأكثر من عشر مجمعات متكاملة بها مدارس أساس وثانوي بنين وبنات ومستشفيات وخلاوى ومراكز حرفية، فيا له من فتىً في السابقين قليل.
قلتُ آنفاً، أن الشيخ الطيب، طيّب الله به بلاداً كثيرة، ولأنه وجد حلاوة الإنفاق ولذته لم (يكنز) ولم (يصُر)، وإنما ابتغى بما آتاه الله الدار الآخرة، فسعى في عمار الأرض التي عرف وتدبّر معنى الاستخلاف فيها، فقاد المبادرة المجتمعية التنموية في السودان، ولسان حاله ومقاله قول الله تعالى:
(لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
المبادرة التنموية المجتمعية في السودان التي أطلقها شيخ الطيب الشيخ برير بفندق كورنثيا في الخرطوم في 15/10/2019م تُعتبر فتحاً جديداً من فتوحات شيخ الطيب المتعددة والمتجددة، وفيضاً من فيوضات أهل الطريق، تدعم رؤيته للمنظور المتطور لمنهج عمل الطرق الصوفية وما ينبغي عليه واقعه ليواكب
المنهج الحداثوي الذي تنبأ به الشيخ العبيد ود بدر وبدأ تنفيذه بهذه المبادرة التي وُلِدت شامخة كشجرة طيِّبة أصلها ثابت وفروعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ففي أقل من عام وبعد الخرطوم إنطلقت المبادرة في ولايات النيل الأبيض، الشمالية، البحر الأحمر والقضارف، وهاهي قوافلها الخيِّرة تمضي بجد نحو بقية الولايات الأخرى، ومما يميزها أنها وجدت القبول والتأييد المطلق، والتف حولها العلماء والباحثين ورجال المجتمع والمختصين فضلاً عن أهل القوم من شيوخ الطرق الصوفية والمجتمع المدني، الإدارة الأهلية، ورموز وكافة رموز وشرائح المجتمعات المحلية، فجاءت حيّة نابضة، لذا كان تنفيذها ممكناً، وليست كلام وطنق حنك وتنظير لا يسنده عمل، ولأن من يقف خلفها ويسندها عُرف طوال مسيرته القاصدة لله بأنه يُتبِعُ قوله العمل.
جاء في ديباجة المبادرة، (إن المبادرة هي البداية الحقيقية لأي تغيير في المجتمع الإنساني، والمبادرة هي الخطة الأولى في طريق أي تقدُّم، أتت هذه المبادرة نسبة للتغيرات الكبيرة والمتسارعة التي تشهدها البلاد، وسوف تتطرّق أو ترتكز على محاور تفيد في الأهمية بمكان لعملية التنمية والثقافة والاقتصاد، كما تتطرّق لاحقاً للموارد المتاحة للبلاد).
لا يرفعن أحدٌ من الناس حاجب الدهشة، إن تحدثت المبادرة عن الجوانب الثقافية والإعلام والرياضة، فلا غرابة إذ أن أهل القوم لهم أفق واسع وبصيرة مفتوحة، والشيخ الطيب يرتكز في عمله على التطوير والتجديد، وتقديم كل ما يحتاجه المجتمع لينهض، ويربط بين الثقافة والرياضة والإعلام مع الصحة والتعليم، ويربط كل ذلك بمقاصد الشريعة الإسلامية التي كرّمت الإنسان، وجعلت كل ما يُبذل له يتصل بالله وإن تدثّر بعباءة المعاصرة مع الأصالة، (قل إن صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)، لذلك جاءت محاورها شاملة شمول المنظور الحداثي للتنمية الإنسانية المستدامة، فكانت على ثماني محاور وفق النحو التالي :
_محور الاقتصاد والتنمية
_محور الإدارة الأهلية والقضاء
_محور الإعلام
_محور الرياضة
محور التعليم
_محور البلديات والمحليات
_محور بيوت الدين
_محور المرأة السودانية
_محور الشباب
وبنظرة فاحصة وقراءة متأنية لمحاور المبادرة نجد أنها كافية شافية، وهي مشروع عمل استراتيجي يقوم بالمجتمع ويصب في نهضته وتطويره والرقي به لمصاف متقدمة، وما يثلج الصدر أنها أفردت حيِّزاً للمرأة (والنساء شقائق الرجال)، وهُن من يسهم في تنشئة الأجيال، وكذلك اهتمّت بالشباب وأفردت لهم محوراً خاصاً، وما أحوجنا لتحصين الشباب ضد الاستلاب الفكري والغزو الثقافي، وجميل كذلك إفرادها محور للإعلام، وقد يطول الحديث حول دور الإعلام في التنمية وتحقيق أهداف المبادرة بشكل خاص، وقيادة الوعي وللاستنارة على وجه العموم، وهي محاور تستحق أن تجد التحليل والتفصيل وفق ما جاء في المبادرة وإضافة ما نراه مفيداً بنقد بنّاء ونصف رأيك عند أخيك، وسنفرد لذلك مساحات قادمة تقويماً و تقويماً.
إطلاق الملتقى السادس للمبادرة اليوم بولاية نهر النيل أمس الأول من مدينة شندي بشراكة مع جامعة شندي، كسادس ولاية، تحت شعار(نحو مجتمع أفضل تحفه روح المحبة والسلام)، والتي تداعى لها المئات من المختصين والباحثين ورجال المجتمع وأهل التصوف والإدارة الأهلية والشباب والمرأة، وشرّفه بالحضور وخاطبه راعي المبادرة الشيخ الطيب الشيخ برير الشيخ الصديق، هذا التداعي يؤكد أن العمل المدروس المحروس، والمُخطط له جيداً والمُوكّل فيه على الله سيبلغ منتهاه، ولو بعد حين، والعاقبة للمتقين. فالتحية المطبوقة لراعي المبادرة ومهندسها الشيخ الطيب الشيخ برير، وله الشكر المُستحق، وعبره التحيات الطيبات لمنسق المبادرة بولاية نهر النيل الشيخ عبد الله عبد الرحمن الشيخابي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى