
بعد سنوات من التردي والانقسام والتجريب، وحربٍ طاحنة طالت كل بيت في السودان، صدر القرار السيادي بتكليف الدكتور كامل إدريس رئيسًا للوزراء. وفي وقت كهذا، لا يمكن للناس إلا أن يسألوا: هل هذا هو الخيار الصائب؟ وهل جاء القرار منسجمًا مع أولويات الداخل، أم استجابةً لحسابات الخارج؟
الاختيار يبدو، بوضوح، موجّهًا نحو الخارج أكثر منه إلى الداخل. فالدكتور كامل يتمتع بعلاقات دولية واسعة وتجربة أممية مشهودة، وهذا أمر لا يُنكر. لكن السؤال العميق الذي لا بد من طرحه: هل هذا وحده يكفي؟ وهل تكفي ثقة العالم إذا غابت ثقة الداخل، وهو من يدفع الثمن منذ سنوات؟
ومع ذلك، ومهما اختلفت الآراء وتباينت المواقف، فإن القرار قد صدر من القيادة الشرعية في لحظة حرجة لا تحتمل الانقسام أو المناكفة. ومن منطلق وطني مسؤول، علينا أن ندعم هذا القرار، لا لأننا نغضّ الطرف عن ملاحظاتنا، بل لأن المصلحة العامة تقتضي أن نمنح الرجل الفرصة كاملة، ونوفّر له البيئة التي تمكّنه من النجاح، لا نحكم عليه قبل أن يبدأ.
إلغاء إشراف أعضاء مجلس السيادة على الوزارات يُعطي رئيس الوزراء الجديد فرصة نادرة لبناء مركز قرار تنفيذي حقيقي. لكن هذه الفرصة لن تُثمر ما لم تُمنح له صلاحيات واضحة، ويُرفع عنه أي تدخل غير مباشر أو تأثير خلف الكواليس. فإدارة بلد في زمن حرب تحتاج وضوحًا لا ازدواجية، وحسمًا لا مساومات.
أما الدكتور كامل نفسه، فإن نقطة انطلاقه الحقيقية يجب أن تكون من الداخل لا من الخارج. عليه أن يُحسن الاستماع لأصحاب الخبرة في الميدان، ويُحيط نفسه بكفاءات وطنية حقيقية، ويستعين بمراكز الدراسات السودانية المتخصصة. فنجاح أي قيادة لا يعتمد على النوايا وحدها، بل على بناء القرار وفق رؤية علمية، واستراتيجية وطنية، تنبع من الأرض وتُخاطب الواقع.
خلاصــــــة القــــــول ومنتهــــــاه:
نعم، الدواء جاء من الخارج، وربما يحمل معه بعض الأمل، لكنه لن يشفي الجراح إذا لم يُدمج مع الواقع المحلي، ويُصغِ لصوت الناس، ويعتمد على خبراء البلد لا المستوردين فقط.
نجاح رئيس الوزراء الجديد لا يتوقف على سيرته الذاتية، بل على قدرته على تحقيق التوازن بين ما ينتظره الخارج وما يحتاجه الداخل، بين صورة السودان في الخارج وصوت السودانيين في الداخل. الفرصة متاحة، لكنّ النجاح يحتاج إرادة، وشراكة، وصدق مع الذات والناس.
رسالـــــة إلــى الدكتـــور كــامـــل إدريــــس_ :
دكتور كامل، لقد جئت في وقت لا يشبه غيره، أمامك وطن جريح، وشعب أنهكته الحروب والخذلان. التحدي ليس في أن تكون رئيسًا للوزراء، بل في أن تكون قائدًا يستمع، ويتواضع، ويخطط، ويشرك أهل الخبرة والميدان.
لا تُغرك الأضواء الدولية، ولا تُثنك تعقيدات الداخل. اجعل الأولوية لما يقوله الشارع لا ما يُقال في الصالونات، واستند على العقول الوطنية الصادقة، فالسودان مليء بالكفاءات التي لا تنتظر مقابلًا سوى إنقاذ ما تبقى.
أنت اليوم أمام لحظة تاريخية، فإما أن تكتب فيها اسمك في صفحة الاستثناء، أو تذوب في قائمة التجارب الفاشلة. القرار بين يديك، والإرادة إن توفرت، فالشعب مستعد أن يمنحك فرصة – لكنها لن تُمنح مرتين.