تأملات – جمال عنقرة – بثينة خليل .. إمرأة من ذهب

الخرطوم الحاكم نيوز
الحاجة بثينة خليل أرملة الرئيس الراحل المشير جعفر محمد نميري التي رحلت خواتيم الأسبوع الماضي، إمرأة أغلي من الذهب، ولو كنت أعلم شيئا يدرك الناس قيمته لقلت أنها أغلي منه، ولكني اخترت الذهب لأنه في ثقافة الناس الرائجة أغلي كنوز الدنيا، ثم أن الناس جميعا علموا كيف استرخصت الحاجة بثينة الذهب، من خلال القصة التي رواها صديقنا الموثق والباحث الحربي سعادة اللواء الركن معاش مصطفي الشيخ، والتي كشف فيها إهداء الحاجة بثينة خليل لها الرحمة والمغفرة مسدس من الذهب الخالص إلى المتحف الحربي كان قد أهدي إلى الرئيس الراحل جعفر نميري أيام حكمه، ولقد فعلت ذلك الحاجة بثينة خليل لأنها تعلم أن السيرة العطرة أفضل ما يتركه المرء خلفه، وليس الذهب والفضة.
والحاجة بثينة خليل ابنة عم الرئيس نميري، وشريكة حياته، ومماته، ورفيقته في الجنة بإذن الله تعالي، تجسد قوله تعالي (الطيبات للطيبين) فكانت امرأة طيبة لزوج طيب يرحمهما الله تعالي، وكانت نعم الزوجة الصالحة للرجل الصالح، وكانت إمرأة عظيمة خلف رجل عظيم، أقول ذلك وقد عشت بعضا منه، وعايشت، وسمعت أكثر منه ممن أثق في شهاداتهم، وألسن الخلق أقلام الحق، فلقد عشت معها فترة ليست بالقصيرة في مصر عندما كنت مستشارا إعلاميا لزوجها الرئيس الراحل، وكنت لفترة طويلة متصلة ومتواصلة أتناول وجباتي الثلاث في بيتها، ينتظرني الرئيس صباح كل يوم بالفطور، ونخرج بعد ذلك معا في زيارات أكثرها لمعاودة السودانيين الذين يستشفون في مصر للإطمئنان علي صحتهم، ومساعدتهم بقدر المستطاع رغم أن الحال كان (علي قدره) ولكن نميري كان شعاره (الجود بالموجود) ثم نعود بعد الظهر نتغدي معا، وأغادر إلى سكني الذي كان قريبا منه، في مساكن شيراتون أولا، ثم في عمارات التوفيق بمدينة نصر ثانيا، وهو كما يعلم كثيرون كان يسكن في قصر النصر تقاطع شارع الثورة مع شارع العروبة في مصر الجديدة، ثم أعود مرة ثالثة بعد المغرب أستقبل معه ضيوفه، ونتفاكر في شؤون البلد، ثم نتناول وجبة العشاء معا، وأغادر.
وحرصت في هذا المقال وفي كل ذكر للراحلة العزيزة أن أذكرها ب (الحاجة) وليس (السيدة) رغم أنها أول من حملت لقب (سيدة السودان الأولي) وهي سيدة بحق وحقيقة استحقت الوصف بفطرتها وصنعتها وصنيعها، ولكن (الحاجة) كانت اسما حبيبا لها، وحبيبا لحبيب عمرها وشريكها الرئيس نميري، فكان يناديها (الحاجة) وكان كل القريبين منه ينادونها كذلك، وكانت هذه من طباع نميري السودانوية الأصيلة التي تميز بها، فكان عندما تحدث وفاة في أم درمان القديمة علي وجه العموم، وفي حي ودنوباوي علي وجه الخصوص، يأتي نميري قبل المغرب بسيارته الخاصة يقودها بنفسه، بجلبابه الأبيض وعمامته البارزة، وتجلس بجواره الحاجة بثينة بثوبها الأبيض الوقور، ويتابعهم فريق الحراسة من بعيد ولا يجرؤ علي الإقتراب منهما، أو الظهور بجوارهما، ولما يصلان يذهب النميري إلى صالون العزاء الذي يجلس فيه الرجال، وتدخل الحاجة بثينة إلى النساء، وبعد صلاة المغرب يدفع نميري في (الكشف) من حر ماله، ولا تتبعه سيارة مراسم تحمل المواجبة من مال الدولة، ثم يقول لأحد أهل العزاء (قول للحاجة يلا) وتكون الحاجة قد واجبت النساء مما ادخرت من مصروفها، وإذا كان للنميري صلة خاصة بالأسرة قابل النساء من ذوي المتوفي في باب النساء، وقدم لهن واجب العزاء. وتلك كانت واحدة من سودانويات جعفر والحاجة، فكانا يعيشان حياتهما طبيعية مثل كل الناس، وأذكر أني كنت قد كتبت عن علاقة نميري مع جارنا في الركابية صديق طفولته، وزميل دراسته في مدرسة الهجرة الأولية الأستاذ محمد عربي، فكان يزوره لوحده منتصف الليل مثلما كان يفعل قبل أن يكون رئيسا للجمهورية، وحتى قبل أن يدخل الكلية الحربية، وكان يجلس معه حتى الساعات الأولي من الفجر في بعض الأحيان، وكان نميري كثيرا ما يوجه الدعوات لأصدقائه في المنزل، وكان يفعل ذلك أثناء الحكم وبعده، وإذا كان للضيف معزة خاصة عند النميري كانت الحاجة تشارك بنفسها في إعداد الطعام، وتشارك أحيانا في تقديمه، وإذا أراد النميري الزيادة في إكرام الضيف شاركتهم الحاجة الطعام، ومن سودانويات الرئيس نميري الطريفة أنه اشتهي يوما وجبة فول عند أحمد سعد فوال ودنوباوي الشهير، وكان وقتها رئيسا للجمهورية، فذهب إلى هناك واصطحب معه بعض أصدقائه من أبناء الحي، وكان يرتدي بنطلون وقميص نصف كم، وكان يجلس في التربيزة المجاورة بعض الأصدقاء كان أحدهم في حالة سكر شديد، فلما شاهد النميري قال لصاحبه (شوف ده بشبه قشيري كيف؟) فقال له نميري (ياهو قشيري ذاتو) وضحك وضحك الجميع، ولم يحدث شئ.
لم أر زوجة تشابه زوجها كما كانت الحاجة بثينة خليل لها الرحمة والمغفرة، فكانت مثل زوجها وابن عمها جعفر في عزة النفس، وعلو الهمة، والزهد في الدنيا، واحترام الناس وتقديرهم، وكان بينهما تقدير متبادل لا تحده حدود، وكانا متفاهمين لدرجة غريبة، وكانت معه في الحلوة والمرة، وفي الحارة والباردة، فلما هبطت طائرة نميري في مطار القاهرة فجر السادس من أبريل عام 1985م في مطار القاهرة قادما من رحلة أمريكا الشهيرة، واستقبله الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك، وأبلغه أن ثورة قد قامت في السودان، وأزاحته من الحكم، كان نميري مصرا في الأول علي مواصلة الرحلة إلى السودان، وكانت الحاجة معه في ذات القرار، إلا أن الرئيس مبارك رفض لهما ذلك بناء علي طلب قادة النظام الجديد الذين كانوا يخشون أن تغير عودته موازين الأشياء، فبقي في مصر، وبقت معه الحاجة، وأمر جميع المرافقين بالعودة إلى السودان، وأعاد معهم كل شئ بما في ذلك بقية نثريات الرحلة.
وبالنسبة لمسدس الذهب الخالص الذي أهدته الحاجة إلى المتحف الحربي، والذي بدأت به المقال، فهو لم يكن أول مقتنيات نميري الثمينة التي قدمها وأسرته للدولة، فعندما سقط نظام حكمه في أبريل عام 1985م، وجد الثائرون أن نميري كان يودع كل الهدايا الخاصة التي تقدم له من الزعماء والرؤساء في القصر والبيت الرئاسي، ومعلومة قصة القصر الذي اشتراه له الزعيم الإماراتي الراحل حكيم العرب الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في لندن، فأمر النميري بتسجيل القصر باسم حكومة السودان، ولم يسجله باسمه، ولا باسم زوجته الحاجة بثينة خليل لهما الرحمة والمغفرة، ومعلوم أن النميري لم يأخذ مترا واحد من حكومة السودان، ورغم أن الحكومة كانت قد خصصت له سكنا في كافوري، لكنه اثر أن يسكنه في بيت زوجته الذي ورثته من أبيها، وسط أهلهم وعشيرتهم في ودنوباوي، وهو ذات البيت الذي قضي فيه بقية عمره، وخرج منه إلى الدار الآخرة، وبعد ثلاثة عشر عاما لحقت به رفيقة عمر وخرجت من ذات البيت، واستقر جثمانها بجوار جثمانه الطاهرين في مقابر أحمد شرفي، مرقد أهلنا الأنصار، نسأل الله أن يبرد مرقدهما، وينزلهما منزلا طيبا مباركا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى