تأملات – جمال عنقرة – الشرطة في خدمة الشعب

الخرطوم- الحاكم نيوز
هذه العبارة ظلت راسخة عندي، وخالدة منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، وكانت منقوشة علي مدخل أي باب له علاقة بالشرطة، ومن حسن حظي أني قد أتيحت لي فرص كثيرة منذ نعومة أظافري أن أعيش في كنف الشرطة، أو أرتع في رباها المخضرة الوريفة، وبهذه المعايشة عشت هذا الشعار (الشرطة في خدمة الشعب) بكل معانيه.
خرجت إلى الدنيا في خمسينيات القرن الماضي علي يد خالتنا المرحومة أم سلمة (الداية) في حي الموظفين في مدينة أم روابة عروس النيم حاضرة شرق كردفان، وكان أبناء قشلاق البوليس (البلك) هم الأقرب إلى حي الموظفين جغرافيا، وكنت الوحيد تقريبا من أبناء حي الموظفين من أبناء أم روابة، ولذلك كان لي امتداد آخر مع أبناء حي أديب الذي يعتبر حوش جدي لوالدتي الشيخ جبارة عمر أحد بيوته الكبيرة والمشهورة، إلا أن وجود جدنا ادم أرباب في البلك وثق من صلاتي بأبناء البوليس، وكان لكرم ولطف زوجته خالتنا عشة بت داود دور في ذلك، فضلا علي وجود الخال الفنان عز الدين مزمل معهم في البيت، ثم أني بدأت لعب كرة الشراب مع أبناء البوليس قبل أن يشكل لنا أخونا المرحوم خضر محمد شريف فريق أشبال الموردة، الذي كان تجمعه الأول في منزلنا الذي خصصه لنا جدنا جبارة بعد وفاة والدنا المهندس عز الدين النور عنقرة، وخروجنا من حي الموظفين.
وعندما تم قبولي في مدرسة عاصمة كردفان المتوسطة بمدينة الأبيض سكنت في قشلاق البوليس الشرقي مع خالنا المرحوم الشاويش محمد ريحان مصطفي (أبو آمنة) وزوجته خالتي وأمي زهرة بت جبارة، وكنت أصلا أقضي عطلات العيد معهم في الأبيض في ذات المنزل في القشلاق الشرقي، ولن تسمح المساحة للحديث عن الحياة المجتمعية في القشلاق، وما يتيحه من ملاذات لأهل الأحياء المجاورة، ولغيرهم، فمدرسة القسم الشرقي درس فيها كثيرون من أبناء الربع الأول والثاني، كما درس كثيرون من أبناء القشلاق في مدرسة الأبيض الشرقية، وكثيرون كانوا يظنون أني درست الأولية في المدرسة الشرقية، لا سيما وأن كثيرين من طلابها من أبناء الأرباع درسوا معنا المرحلة المتوسطة في عاصمة كردفان، وكان نادي القشلاق نادي للبوليس، ولغيرهم من الجيران، وكان (تعاون) القسم الشرقي لا يستفيد منه البوليس وحدهم، وأذكر أن كثيرين من أهلنا الذين يتولي خالنا (أبو آمنة) قضاء بعض حوائجهم، يأخذ لهم ما يحتاجون إليه من التعاون خصما علي حسابه، وأذكر أن أكثر البوليس الذين كانوا يسكنون في القشلاق الشرقي، كانوا من (السواري)الذين يبسطون هيبة الدولة، وينشرون الأمن والأمان، هم يجوبون أطراف المدينة وأوسطها يحرسون، والناس ينومون آمنين مطمئنين. وكانوا (يفزعون) خلف عتاة النهابين، وغلاة المجرمين، ويردون الحقوق المسلوبة والمنهوبة، وكانت الدولة والمجتمع يحفظون لهم هذا الصنيع الجميل، وهم يتفانون لتحقيق الشعار (الشرطة في خدمة الشعب)
و حضرتني هذه اللحظة حادثة مهمة كان بطلها خالنا محمد ريحان له الرحمة والمغفرة في ستينيات القرن الماضي، وكان وقتها يعمل في شرطة مدينة رشاد في الجبال الشرقية، وكان حينها في رتبة الأمباشي (عريف) وكان قد وقع نزاع قبلي مسلح في منطقة (أم دورين) فأرسل إلى هناك لإخماد النار التي اشتعلت وكان معه عسكري نفر (جندي) وخفير، وكانوا يحملون ثلاث بنادق، فلما وصلوا وجدوا المعركة قد حميت، وكان المتقاتلون في أغلبهم يستخدمون الأسلحة البيضاء، وكان يحمل اثنان أو ثلاثة منهم (خراطيش) أو بنادق محلية الصنع (داودي) فأطلق أبو آمنة عيارا في الهواء لتنبيه المتقاتلين بوصول الشرطة، لكنهم لم يهدأوا، وكانت هناك (حكامة) تغني وتحمس الرجال علي القتال، فأطلق عيارا اخرا، فردوا عليه بعيار نحوهم أصاب العسكري الذي كان معه، فأطلق عيارا ناحية الحكامة، أصاب به (الدلوكة) التي كانت تضربها، وأصاب يدها، فهجم بعضهم علي العسكري المصاب، وأجهزوا عليه، وأخذوا بندقيته، وهنا ارتكز ابو آمنة، وضرب (في المليان) فشتت شملهم، وتفرقوا، فتمكن من إنقاذ الخفير الذي كان معه، وفر جميع المتقاتلين من الفريقين هاربين، فأخذ مع الخفير جثمان العسكري شهيد الواجب وانسحبوا إلى رشاد، فتم وضعه في الإيقاف لمدة عامين، وكانت تجري له محاكمة خلال هذه الفترة، وأذكر أني قد سافرت من أم روابة مع شقيقتي الراحلة المقيمة أستاذة الأجيال الست أم سلمة عز الدين إلى رشاد لحضور جلسة النطق بالحكم، فحكم القاضي له بالبراءة، وقال في حيثيات حكمه أنه قتل لحفظ أرواح كان يمكن أن تزهق، أرواح المتقاتلين قبل روحه، وروح الخفير الذي كان معه، وبناء علي هذا الحكم، فكت الشرطة حظر نصف راتبه الذي كان موقوفا طوال فترة المحاكمة، وأصدر مدير شرطة المديرية قرارا بترقيته إلى رتبة الجاويش (رقيب) وتم نقله إلى شرطة مدينة الأبيض، وصار حكمدارا للقسم الأوسط.
وللناس أن يقارنوا بين هذه الواقعة، وبين واقعة كوبري شرق النيل التي طالب فيها والي ولاية الخرطوم بإقالة رئيس القسم الذي كان ينفذ تعليمات السيد الوالي بإغلاق الجسور، وعدم السماح للمواطنين بالمرور، مع وضع في الحسبان أن كاميرات قناة العربية وثقت وجود مسلحين، يرتدون ملابس مدنية، ويركبون بكاسي ملاكي، يطاردون المتظاهرين، ويتهم كثيرون هؤلاء بإطلاق النار، ومع ذلك يطالب الوالي بإقالة رئيس القسم الذي كان ينفذ تعليماته بمهنية واحترافية عالية، ولم يقل الوالي شيئا، في حق الذين ثبت أنهم كانوا يرتدون ملابس مدنية، ويحملون أسلحة نارية، ويتحرشون بالمتظاهرين، وبالاعلاميين كذلك، علما بأن قيادة الشرطة نادت بتحقيق عادل مثل الذي حدث للأمباشي محمد ريحان قبل أكثر من نصف قرن في جبال كردفان الشرقية، وتظل الشرطة كما هي (في خدمة الشعب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى