تأملات – جمال عنقرة – السياسيون السودانيون .. تجمعهم المصائب وتفرقهم المكاسب (2)

تحدثت في مقال الأمس عن تجربة الجبهة الوطنية التي تكونت بعد انقلاب مايو 1969م، وضمت أحزاب الأمة والاتحادي والحركة الإسلامية، وكيف أنها حققت تلاحما وطنيا مميزا، لاستعادة الديمقراطية، ثم ذكرت أنه وبمجرد أن لاحت بوادر النصر، دبت الخلافات بين بعض قادة مكوناتها، ثم تحول الأمر إلى صراعات ومؤامرات كانت سببا أساسيا لفشل الانتفاضة المسلحة التي قادتها الجبهة الوطنية يوم الجمعة الثاني من شهر يوليو عام 1976م وقدمت فيها خيرة أبناء الوطن شهداء في سبيل الحرية والديمقراطية.
لاحت فرصة أخري سريعة لجمع القوي الوطنية المعارضة والحاكمة بعد انتفاضة يوليو 76 بزمن قصير، تمثلت في المصالحة الوطنية بين الرئيس نميري وبين الجبهة الوطنية قادها الرجل الوطني المتجرد الراحل المقيم السيد فتح الرحمن البشير، وكان منطلق السيد فتح الرحمن له الرحمة والمغفرة أن الصراع بين الحكومة والمعارضة اتخذ شكلا خطيرا يمكن أن يقود البلاد إلى مزالق قد تؤدي إلى مهالك، وفتح الرحمن يعرف النميري، ويعرف وطنيته وجسارته، وكان نميري أشقي الناس بما حدث في يوليو 76، وله مقولة مشهورة قالها في حزن وأسي شديدين في ذاك اليوم الدامي، فقال (للأسف الشديد لما دخلنا دار الهاتف وجدنا القتلي من فلذات أكبادنا طلاب جامعة الخرطوم) لذلك عندما عرض عليه فتح الرحمن البشير فكرة المصالحة لم يتردد أبدا، فذهب السيد فتح الرحمن للسيد الصادق المهدي، وعرض عليه أيضا مشروع المصالحة مع نميري، فلم يتردد السيد الصادق، وجاء إلى بورتسودان والتقي الرئيس نميري في عرض البحر، واتفقا علي المحاور الرئيسية للمصالحة، ثم عرضها بعد ذلك السيد الصادق المهدي علي شركائه فتحفظ عليها الشريف حسين الهندي له الرحمة والمغفرة، وقبلها الإسلاميون، وعاد حزب الأمة وعاد الإسلاميون وأخرج الذين كانوا في السجون، وتم تعيين مجموعة من هؤلاء وأولئك في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي الحزب الحاكم في مايو، وكان أول المعينين رئيس حزب الأمة السيد الصادق المهدي، والأمين العام للحركة الإسلامية الدكتور حسن الترابي له الرحمة والمغفرة، إلا أن السيد الصادق لم يصبر كثيرا، إذ أن نصيبه في السلطة لم يجده مكافئا لوزنه، ولحجم حزبه التاريخي، فنفض يده من المشاركة، فخرج وترك خلفه بعض قادة حزبه الذين دخلوا مع المصالحة، مثل المرحوم الدكتور عبد الحميد صالح الذي وصل إلى أن صار نائبا لرئيس برلمان مايو، مجلس الشعب القومي، والمرحوم الدكتور شريف التهامي الذي صار وزيرا للطاقة في عهد مايو، بل أشهر وزرائها، وحافظ الإسلاميون علي مشاركتهم رغم ما كانوا يعانون من مضايقات بعض حرس مايو القديم، وبعض بقايا اليسار فيها، وساعدهم علي الصبر أمران، الإنجازات الكبيرة التي تحققت علي صعد شتي، وحماية الرئيس نميري لهم رغم كيد الكائدين، وظلوا علي صبرهم هذا إلى أن استجاب النميري لهمس الواشين، فألقي القبض علي قادتهم في العاشر من مارس عام 1985م، وظل يطارد الباقين، ويتوعدهم إلى أن سقط نظامه في السادس من أبريل عام 1985م، وكان انقلاب نميري علي الإسلاميين الذين تحولوا بعد العاشر من مارس إلى معارضين، كان واحدا من العوامل الرئيسة لسقوط نظام حكمه.
فرصة أخري لاحت لتحقيق إجماع وطني بين القوي السياسية الرئيسة بعد انتخابات 1986م، قاد مبادرتها المرحوم الشريف زين العابدين الهندي، وكان وقتها هو الأمين العام للحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يتولي رئاسته مولانا السيد محمد عثمان الميرغني، وكان حزب الأمة القومي برئاسة السيد الصادق المهدي قد نال مائة دائرة انتخابية، ونال الحزب الاتحادي الديمقراطي ثلاثا وستين دائرة، وحازت الجبهة الإسلامية القومية أربعا وخمسين دائرة، ولم يكن في مقدور أي حزب أن يشكل حكومة منفردا إلا أن يأتلف مع حزب آخر، ولأن الشريف زين العابدين الهندي ظل مسكونا بحلم الجبهة الوطنية، وكان أمل حياته كلها أن يلتقي السودانيون الوطنيون في جبهة واحدة، تجمع شتاتهم، وتوحد صفهم، اقترح علي رئيس الحزب السيد محمد عثمان الميرغني، ألا يدخلوا في ائتلاف مع حزب الأمة، ولا الجبهة الإسلامية، ويحرصوا علي تكوين تحالف عريض يضم أحزابهم الثلاثة، مع بعض الأحزاب الجنوبية يشكلون حكومة منهم جميعا، فلما وافق مولانا السيد محمد عثمان، جمع بينه وبين الدكتور الترابي، وتعاهد الشيخ الترابي ومولانا الميرغني علي ألا يدخل أحدهما في حكومة ائتلاف مع السيد الصادق المهدي دون الآخر، وشهد علي هذا الإتفاق مع الشريف زين العابدين، كل من السيد أحمد عبد الرحمن محمد، والمرحوم الأستاذ عثمان خالد مضوي، القياديان الاسلاميان المعروفان، ومع نسمات الفجر الأولى أرسل السيد محمد عثمان الميرغني إلى السيد الشريف زين العابدين الهندي، يبلغه أنه قد اتفق مع السيد الصادق المهدي علي تكوين حكومة ائتلافية من حزبيهما الاتحادي الديمقراطي، وحزب الأمة القومي، واستبعدا الجبهة الإسلامية القومية، وكان هذا بمثابة تحرير شهادة وفاة لحلم الشريف زين العابدين بتوحيد القوي الوطنية السودانية في جبهة واحدة، وهو الحلم الذي مات دونه السيد الشريف، ومثلما قتل حلمه السيدان المهدي والميرغني في عام 1986م، في بداية عهد الديمقراطية الثالثة، اغتاله مرة أخري المتامرون من منسوبي حزبه من الذين ركبوا معه قطار مبادرة الحوار الشعبي الشامل التى فجرها في العام 1996م، في عهد الإنقاذ، ولقد أعان المتآمرين من منسوبي حزبه علي ذلك، السند والعضد الذي وجدوه من بعض قصيري النظر من منسوبي المؤتمر الوطني، وأجهزة الإنقاذ الأمنية، ومعلوم أن الشريف زين العابدين له الرحمة والمغفرة لما بلغ به اليأس مبلغا عظيما كتب آخر قصيدة في حياته (خذني منهم) سأل الله تعالي أن يأخذه من بين هؤلاء الذين لا يشبههم ولا يشبهونه، ولم يعش الشريف بعد ذلك طويلا، فاختاره الله إلى جواره له الرحمة والمغفرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى