تأملات – جمال عنقرة _ معركة الدولار .. الطعن في الظل

استغرب جدا لكثير من الإجراءات التي تتخذها الحكومة لكبح جماح الدولار الأمريكي وكل العملات الأجنبية في مقابل الجنيه السوداني المغلوب علي أمره، وكلها إجراءات أمنية قمعية، ولعل هؤلاء لم سمعوا بمقولة صديقنا الراحل المقيم الحاج بابكر حامد موسي (ودالجبل) للرئيس الأسبق عمر البشير في شأن الدور، وكان حاج بابكر قد حذر البشير من المساس بالدولار، وقال له قولا مشهوا، (الدولار ده مما تهبشو برتفع)
وهذه السياسات الخرقاء لوقف جنون الدولار ليست جديدة، ولم تبدأ في هذا العهد، وهي بعض مواريث العهد البائد، والتي تسير فيها الحكومة الحالية بأسوأ مما كان عليه في السابق، ولم تقو علي الإقتراب من مواطن الداء، ولقد كتبت، وقبل أكثر من عشر سنوات عددا من المقالات في صحف عدة، عددت فيها أخطاء سياسات الدعم التى تضر بالاقتصاد السوداني، وتحديدا دعم القمح والدقيق في المقام الأول، ويليه دعم الدواء، ولقد استنطقت في ذلك اقتصاديين كثر، لا سيما في البرامج التلفزيونية التى كنت أقدمها، وقدموا وصفات ناجعة للعلاج، إلا أن الذين كان بيدهم الأمر كانوا أضعف من أن يتخذوا قرارا لصالح المواطن السوداني، ويبدو أنهم كانوا أسيرين أشياء ما تحول دون مواجهتهم لمافيا القمح، ومن بعدها مافيا الدواء، وللأسف الشديد فإن الأسر لا يزال مستمرا، ولم يقف عند حدود المسؤولين وحدهم، ولكنه طال حتى أدعياء الثورة، وكذلك كثيرين من حملة الأقلام، فحتى هؤلاء يقفون عاجزين عن قول الحق.
وحتى يوم أمس قرأت تصريحا صحفيا لأصحاب المخابز يدعون فيه إلى وقف دعم الدقيق، ويطالبون بترشيد هذا الدعم، وتوجيهه إلى الخبز، ولكن لا حياة لمن ينادون، وصدق أهلنا في دارفور حين قالوا في مثلهم المشهور (دبيب في خشمو جرادة، ولا بعضي) ولقد وضعت مافيا الدقيق كميات من الجراد، ومعه كثير مما لذ وطاب، ولذلك أمنوا مكر الجميع، (ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين)
لم يكن في العهود القديمة يوجد دعم يوجه لاستيراد القمح، وإنما كان المستوردون يشترون القمح بالأسعار المعلومة للدولار، وتقوم الحكومة بشراء الدقيق من المطاحن، وتبيعه للمخابز بسعر مدعوم من جانبها، وكانت ميزة هذه السياسة أن الدعم يذهب فقط إلى دقيق الخبز، أما السياسة العلة التى اتبعها النظام السابق، وسار علي نهجها هؤلاء الذين خلفوهم، أن الحكومة كانت تدعم كل القمح الوارد للسودان، وكان يشمل هذا الدعم دقيق الخبز، ودقيق الحلويات والمعجنات، والبسكويت، والمكرونة وغيرها مما يدخل الدقيق في صناعته، بل إن الدعم يشمل حتى الدقيق الذي يتم تصديره لبعض دول الجوار، بعد إعادة تعبئته، وكان من نتاج هذه السياسة المدمرة أن بعض دول الجوار الغنية صارت تعتمد بصفة أساسية في استهلاكها من البسكويت والمكرونة بأنواعها المختلفة علي السودان، وبعضها نقلت مصانعها إلى السودان، حيث أسعار الدقيق هنا أقل من نصف أسعاره عندهم، ذلك أن الدقيق – كل الدقيق – في السودان مدعوم من مال محمد أحمد المغلوب علي أمره، لصالح أولياء نعمة بعض الحاكمين قديما، وبعض أدعياء الثورة في هذا العهد. وتشير معلومات موثقة أن ما جناه زعماء مافيا الدقيق في السودان يقدر بأكثر من عشرة مليارات من الدولارات، ولذلك عندما استعانت حكومة ببيت خبرة أجنبي لمراجعة حال الاقتصاد في السودان، حدد هذا البيت الأجنبي أربعة أسماء وجه إليهم اتهاما مسنودا بالأدلة القاطعة بتدمير الاقتصاد السوداني، وجاء زعيم مافيا الدقيق علي رأس هؤلاء الأربعة، ولكن من يجرؤ علي القول بأن (أم المك عزبة)
ولن ينصلح حال الاقتصاد السوداني، ولن يتعافى ما لم تمتلك الحكومة الجرأة والقدرة علي مواجهة الفساد والمفسدين، ولكن أن تظل تنظر إلى الفيل وتطعن في ظله، وتطارد السماسرة والجوكية، وتغض الطرف عن مكامن الخطر، فإن ذلك سوف يزيد الطين بلة.
ونعود في مقال قادم بإذن الله تعالي للحديث عن مافيا الدواء، وعن السياسات الاقتصادية التي يمكن أن تساهم في تعافي الاقتصاد السوداني، وتفتح أبواب الأمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى