
استهداف المليشيا لمقر بعثة الأمم المتحدة المؤقتة لأبيي (UNISFA) في كادوقلي ، يُعد واقعة ذات حمولة سياسية وإعلامية وقانونية عالية،ڢ كفيلة – لو أُحسن توظيفها – بإحداث إختراق حقيقي في معركة السردية، وفي مسار التعامل الدولي مع المليشيا المسؤولة عن الحادث. غير أن المفارقة اللافتة أن الحضور الكثيف للإعلام الدولي، وما صاحبه من إدانات وتصريحات أممية، قابله غياب سوداني شبه كامل عن إدارة اللحظة إعلامياً، وتحويلها إلى رافعة سياسية وقانونية باتجاه تصنيف المليشيا كمنظمة إرهابية.
الإعلام الدولي تعامل مع الحادث بوصفه ” هجوماً على بعثة أممية” و ” استهدافاً لقوات حفظ سلام”، وهو توصيف مهم ، لأنه يضع الواقعة في مربع الجرائم التي لا تُقاس بمنطق “الصراع الداخلي” و” حرب جنرالين” ، بل بمنطق الاعتداء على النظام الدولي نفسه. هذا الإطار السردي التقطته كبرى المنصات الدولية، وربطته بالقانون الدولي الإنساني، غير أن هذا الزخم لم يجد ما يوازيه من خطاب سوداني رسمي وإعلامي منظم، قادر على البناء عليه وتوجيهه نحو نتيجة وكسب سياسي.
الغياب لا يتعلق بالتغطية فقط ، بل بغياب ” الرؤية الإعلامية المتكاملة” ، فحتى الآن ،لم تتبلور حملة اعلامية تخاطب الخارج بلغة القانون الدولي، ولم نرى توظيفاً ممنهجاً لمصطلحات مثل “جريمة حرب”، “استهداف متعمد لبعثة أممية”، “تهديد للسلم والأمن الدوليين”، وهي مفردات حاضرة بقوة في الخطاب الدولي، لكنها غابت في الخطاب السوداني الإعلامي، الأسوأ من ذلك، أن الواقعة لم تُستثمر إعلامياً كحلقة ضمن سجل الانتهاكات، ما أضعف قدرتها على دعم مسار تصنيف المليشيا تنظيماً إرهابياً.
على مستوى ردود الفعل الدولية، فقد اتسمت – كالمعتاد – بالإدانة اللفظية الصارمة، مع حرص واضح على استخدام عبارات مدروسة لا تُغلق أبواب الوساطة بالكامل. الأمم المتحدة، رغم توصيفها للهجوم بأنه “غير مقبول” وقد يرقى إلى “جريمة حرب”، توقفت عند حدود الإدانة والمطالبة بالتحقيق والمساءلة، دون الذهاب خطوة أبعد نحو تسمية مباشرة أو إجراءات عقابية. هذا الاتساق مع سلوك المنظمة ، تُدين بشدة، و تتحرك ببطء، ما لم تُدفع سياسياً وإعلامياً من قبل الدولة المعنية.
ما كان مطلوباً – ولا يزال – هو الانتقال من رد الفعل إلى الفعل: حملة إعلامية خارجية موجهة، تستثمر الاهتمام الدولي، وتخاطب الصحافة الأجنبية بلغة تفهمها، وتربط بين استهداف البعثة الأممية وسلوك المليشيا في دارفور وكردفان والخرطوم. كان مطلوباً أيضاً إشراك خبراء قانون دولي، وواجهات مدنية وإعلامية غير رسمية، لتوسيع دائرة الضغط، وعدم ترك الملف حصراً في يد البيانات الحكومية التقليدية.
خـلاصـة القــول ومنتهــاه :
المجتمع الدولي لا يتحرك فقط بدافع الأخلاق أو القانون، بل تحت ضغط السرديات المتراكمة، وهذه، اختبار جديد لقدرة الدولة على إدارة معركة الرواية في زمن الحرب، فإما أن تُترك الأحداث لتُفسَّر خارجياً وفق توازنات الآخرين، أو تُدار داخلياً بعقل استراتيجي يرى في الإعلام أداة سيادية لا تقل أهمية عن السلاح أو الدبلوماسية. استهداف بعثة الأمم المتحدة في كادوقلي كان يمكن أن يكون نقطة تحول في مسار التعاطي الدولي مع المليشيا… لكنه حتى الآن، مثال آخر على ضياع فرصة أخري لم تُستثمر.



