
بقلم : ندي عثمان عمر الشريف
ما زال البعض يروّج، بسذاجة أو بتواطؤ، لفكرة أن المليشيا الإجرامية المعروفة بالجنجويد، يمكنها أن تكون طرفًا في صناعة السلام، أو أن تقبل التذويب في مؤسسات الدولة، خاصة الجيش، وكأن شيئًا لم يكن. هذه الرؤية لا تنبع من قراءة واقعية، بل من خيال يهرب من الحقيقة القاسية: أن هذه المليشيا لم تنشأ لحماية الوطن، بل لحماية مصالح عائلية ومشاريع خارجية.
من يروّجون لهذا الطرح، يغفلون عن عمد أن الجنجويد بصيغتهم الجديدة كـ”قوات دعم سريع” لم يكونوا يومًا جيشًا وطنياً. لقد وُلدوا خارج منظومة الدولة، وتربّوا على ثقافة النهب والقتل والإفلات من العقاب. تجارب الحرب الأخيرة كشفت بوضوح مروع أن هذه المليشيا لا تتبع لسلطة مدنية ولا لمرجعية دستورية، بل لمصالح آل دقلو وشبكة إقليمية تقف خلفهم، في مقدمتها الإمارات، التي وفّرت لهم التمويل، والدعم السياسي والإعلامي.
أي مشروع يُبنى على بقاء هذه المليشيا أو شرعنتها هو في حقيقته نسخة معدلة من الحرب نفسها سيتم تأجيلها إلى حين، لتنفجر لاحقًا بأبشع الصور. كيف يمكن بناء سلام حقيقي ودولة عادلة بينما يحمل القاتل سلاحه في قلب المؤسسات، ويُعامل كمواطن صالح دون مساءلة؟
إن السلام الحقيقي لا يُبنى فوق المقابر الجماعية ولا على أنقاض المدن المحروقة. السلام يبدأ من تفكيك أدوات الحرب، من محاسبة الجناة، لا من مكافأتهم بالمناصب. وإن الحديث عن دمج الجنجويد في الجيش دون نزع السلاح، وتحديد ولاءاتهم، ومحاسبة المتورطين منهم، ليس إلا وصفة لإعادة إنتاج الانهيار.
ان الطريق للسلام في السودان ليس طريقاً مختصراً عبر المليشيا، بل عبر العدالة، والمصالحة القائمة على الحقيقة، والدولة القوية التي لا تساوم على دماء شعبها.
أما غير ذلك، فهو تسوية خادعة لن تصمد أمام أول رياح صدق.
إن ما يحدث اليوم ليس فقط معركة جغرافيا، بل معركة وعي.
فإما أن نختار بناء وطن، أو نُسلّمه لمن رآه غنيمة تُنهب، لا أرضاً تُزرع.



