أخر الأخبار

دبلوماسية التشافي … جسر ومورد إستراتيجي

بقلم : محمد أحمد أبوبكر – باحث بمركز الخبراء للدراسات

“الأزمات الكبرى، تخرج من رحم الضرورة بذور الممكن، ومن بين الرماد تولد الفكرة التي تُعيد تعريف الدولة وقدرتها.”
في قلب حرب الكرامة، حيث تتداخل الجبهات العسكرية مع الجبهات الإنسانية، برزت تجربة الملحقية الطبية بالسفارة السودانية بالقاهرة كتجربة نوعية غير مسبوقة. فقد تحولت من مجرد مكتب إداري إلى منصة لتقديم التأمين العلاجي والخدمات الطبية للجالية السودانية، خطوة فرضتها الضرورة… لكنها سرعان ما كشفت بابًا كان البعض يراه مستحيلاً.

وفق تقديرات أولية، استفاد من خدمات الملحقية أكثر من ٥٠٠٠ سوداني في أقل من ستة أشهر، ما يجعل هذه التجربة نموذجًا حقيقيًا لإدارة الأزمة بالموارد المحدودة والابتكار المؤسسي.

هذه التجربة لا تقتصر على توفير خدمة علاجية متكاملة، بل تُمثل فعلًا دبلوماسيًا وإستراتيجيًا بأبعاد اقتصادية وأمنية واجتماعية. وفق رؤية الجسر والمورد، فإن ما جرى هو تأسيس لما يمكن أن نسميه بـ “دبلوماسية التشافي”: رؤية تتجاوز حدود الدواء والطب، لتصوغ جسور ثقة بين الدولة ومواطنيها في الخارج، وتعيد تعريف دور البعثات الدبلوماسية السودانية في كل المحطات العالمية.

ومع ذلك، ورغم هذا الإنجاز الملموس، يظل السؤال الموجع قائمًا: لماذا لم تُسلّط وزارتا الخارجية والصحة الضوء الكافي على تجربة الملحقية الطبية بالقاهرة؟ ولماذا غاب الإعلام السوداني عن إبراز هذه التجربة كجزء من انتصارات حرب الكرامة؟
إن ما قامت به الملحقية لم يكن مجرد إجراء إداري أو خدمة عابرة، بل هو فعل إستراتيجي أثبت أن السودان قادر على إدارة أزماته بموارد مبتكرة. لقد صمدت الملحقية في موقعها، وأدّت واجبها دون أن تغادر جبل السودان، فملأت ثغرًا كان يمكن أن يكون مكشوفًا، وقدّمت نموذجًا يستحق أن يُدرّس ويُعمم.

هذه الخطوة رسخت أن السودان يحتاج إلى الإجابة عن سؤال يبدأ ب “كيف…؟” لا إلى سؤال يبدأ ب “من..؟”؛ إلى الجودة التي تُحدث فرقًا، لا إلى التكرار الذي يستهلك الجهد والموارد. والتجاهل الإعلامي والرسمي لهذا الإنجاز لا يقلل من قيمته، لكنه يكشف خللاً في القدرة على تسويق النجاحات الوطنية، وهو ما يجعلنا أحوج اليوم إلى إستراتيجية إعلامية ودبلوماسية تُسكن هذه الإنجازات في المكانة التي تليق بها.

إن تعميم تجربة الملحقية الطبية بالقاهرة ليس ترفًا، بل ضرورة إستراتيجية لبناء منظومة تأمين علاجي خارجي تتكامل مع تطوير فكرة التأمين الصحي داخل السودان. فكما أن السلاح يحمي حدود الوطن، فإن الطب يحمي نسيجه الاجتماعي، ويعيد للأمة ثقتها بذاتها في أشد اللحظات قسوة.

مقارنة دولية: كيف يُوظف العالم دبلوماسية التشافي؟

في دول مثل كوبا والهند، تحول القطاع الصحي إلى أداة قوة ناعمة، حيث تُستثمر الخدمات الطبية لتقوية النفوذ الدولي، وتأسيس تحالفات إستراتيجية. التجربة السودانية في القاهرة، رغم الظروف الاستثنائية، تأتي على نفس المنوال، مع اختلاف الموارد، ما يجعلها نموذجًا يحتذى به على المستوى العربي–الأفريقي.

وهكذا، تُعلّمنا التجربة أن دبلوماسية التشافي ليست مجرد مفهوم، بل أفق إستراتيجي يضع السودان على مسار جديد: مسار يؤكد أن القوة لا تُقاس فقط بالقدرة على القتال، بل بالقدرة على شفاء الجراح وبناء الأمل.

ولعل أعظم ما في هذه التجربة أن القائمين على أمر الملحقية الطبية، نحسبهم من أولئك الفتية الذين آمنوا بالسودان، فصدحوا بالعمل بدل الشعارات، وصاغوا إنجازًا في صمت يوازي في قيمته صمود المقاتلين في ميادين العزّة. إنهم البرهان العملي على أن حرب الكرامة ليست بنادق وحدها، بل عقولًا وسواعد تُعيد للوطن روحه من كل ثغرٍ حُرِس وأُتقن.

دعوة لإطلاق مبادرة دبلوماسية التشافي

إن التجربة السودانية في الملحقية الطبية بالقاهرة تستحق أن تتحول إلى وثيقة إعلامية كبرى: فيلم، برامج، تقارير، وحتى مقررات جامعية.

ولذلك، فإن الدعوة اليوم موجهة إلى:

●القنوات الإعلامية السودانية والعربية: لتوثيق هذا الإنجاز وإبرازه ضمن انتصارات حرب الكرامة.

● الإعلاميين والمثقفين: لحمل هذه التجربة كنموذج لإعادة تعريف الدبلوماسية السودانية.

● مراكز البحوث والجامعات: لدراسة وتحليل “دبلوماسية التشافي” كمدخل جديد في العلاقات الدولية.

● اتحاد شركات التأمين السودانية: لدعم مبادرة دبلوماسية التشافي من خلال توفير الإطار الفني والمالي لتعزيز مشاريع التأمين الصحي الخارجي، وتوسيع نطاق الاستفادة للجاليات السودانية في مختلف الدول.

بل وأكثر من ذلك، يمكن أن تكون هذه المبادرة شرارة لإطلاق “مبادرة دبلوماسية التشافي العربية–الأفريقية”، بحيث تتحول التجربة السودانية إلى نموذج يحتذى به، يجمع بين الرعاية الإنسانية والتأثير الإستراتيجي.

الربط بتحالف CODAS:
من خلال هذه المبادرة، يمكن ربط التجربة السودانية بتحالف CODAS لتعزيز التعاون الإقليمي، بحيث لا تقتصر دبلوماسية التشافي على الجانب الطبي، بل تصبح أداة لبناء التحالفات الإستراتيجية، ودعم الاستقرار الاقتصادي والأمني، وتعزيز دور السودان في صناعة السياسات العربية–الأفريقية.

أصل القضية،،،
الملحقية الطبية – سفارة السودان – القاهرة: انتصار صامت في حرب الكرامة… وبذرة لميلاد مبادرة عربية–أفريقية تحمل اسم “دبلوماسية التشافي”.
السؤال الإستراتيجي: فهل نملك الشجاعة لتحويل هذه التجربة من استثناء فرضته الضرورة إلى سياسة دولة تصنع الفارق؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة عشر − واحد =

زر الذهاب إلى الأعلى