
واحدة من الإشراقات التي أفرزتها الحرب ” إن كان للحرب إشراقات” هي تنامي روح المبادرات الإنسانية والمجتمعية وسط السودانيين، وارتفاع روح التكافل والتعاضد خاصة في بلاد المهجر حيث واجه السودانيون الفارون من الحرب ظروفاً قاسية نتيجة خروجهم ” المستعجل” من ديارهم وأخذ ما خفَّ وزنه على أمل العودة قريباً باعتبارها حرباً قصيرة الأمد سرعان ما تنتهي بانتهاء أسباب “الزعل” ما بين الجيش وميليشيا الدعم السريع، وما دروا بأنها مأمورة ومخطط خبيث ولئيم تقف من وراءه محاور إقليمية ودولية وليست ميليشيا الدعم السريع فيه سوى بيادق شطرنج، يتم تحريكها من على البعد.
وفي مثل هذه الظروف وفي هذا الوقت الذي خنق فيه الألم قلوب السودانيين المشتتين في المهاجر، جراء ما فرضته الحرب من مآسٍ ونكبات، بزغت مبادرة إنسانية من رحم المعاناة أعادت الأمل إلى نفوس آلاف السودانيين العالقين في سلطنة عُمان، وكان الاسم الأبرز الذي حلّق بهذه المبادرة الإنسانية عالياً نحو الشمس، دكتورة إنسانة بكل ما تحمل الكلمة من معنى هي الدكتورة سارة عبد العزيز الزبير، التي كانت تقيم بسلطنة عمان فغسلت يدها عن نعيم الاغتراب، وأغلقت عيادتها التي كانت تدرُّ عليها عائداً مالياً يساعدها في تربية أبنائها، وانخرطت في خضم معاناة السودانيين وفوضى أوجاعهم وظروفهم القاهرة، فاستطاعت دكتورة سارة وخلال فترة وجيزة أن تجسِّد المعنى الحقيقي للمواطنة والمسؤولية الأخلاقية والوطنية.
ولما كانت جرأة المبادرة، وصفاء النية، وصدق التوجه الوطني، والهمة والروح العالية، سمات ميزت شخصية دكتورة سارة عبد العزيز الزبير، فقد سارعت إلى إطلاق مبادرة إنسانية اختارت لها اسماً يواكب رغبة السودانيين العالقين في التوجه إلى بلادهم فكانت مبادرة ” العودة الطوعية” التي التفَّ حولها ألاف السودانيين في سلطنة عمان ممن ظلوا يرزحون تحت وطأة القلق من المصير المجهول بعد أن تقطعت بهم السبل، فأصبحت العودة إلى الوطن حلماً صعب المنال، لاسيما وأن معظم السودانيين صُدموا بقوانين العمل والإقامة التي فرضتها السلطات العمانية، وصرفوا ما في إيديهم من أموال وحُلي، فشكّلت مبادرة ” العودة الطوعية” طوق نجاة بالنسبة لهم، ليتفاعلوا معها عبر منصات التواصل الاجتماعي عبر مجموعات ” واتساب” بالرصد ومتابعة الأنشطة والجهود التي تبذلها دكتورة سارة كقائد حقيقي لمشروع يمثل حياةً لا مجرد منسقة إدارية تتعاطي إيجاباً مع فريقها المعاون، حيث اجتهدوا جميعاً من خلال اتصالات ومكاتبات واجتماعات وملفات وتحديد قوائم، وإجراءات وتنسيق جهود ومواقف مع عديد الجهات، حتى تكللت كل هذه المساعي باستجابة من عدة جهات من ضمنها شركة الخطوط الجوية السودانية ” سودانير” عبر مديرها كابتن مازن العوض الذي تعاطى بروح وطنية وثَّابة، ومنطلقات إنسانية لم تكبلها قيود الوظيفة، فحققت المبادرة أولى خطوات النجاح بإجلاء عدد مقدر من السودانيين العالقين من سلطنة عُمان إلى السودان، في رحلة طوعية عبر “سودانير” أُنجزت بعلاقة تشاركية، وتنسيق محكم وفعّال، وبتكلفة مالية مخفّضة، وهو ما أعاد الكرامة للكثيرين ممن فقدوا الأمل في العودة.
لفتت مبادرة العودة الطوعية، ومن خلال وصول الفوج الأول من العالقين السودانيين في سلطنة عمان، انتباه وزير المالية والتخطيط الاقتصادي دكتور جبريل إبراهيم محمد، الذي يشغل موقع رئيس مجلس إدارة شركة الخطوط الجوية السودانية والذي كان في استقبال طائرة “سودانير” بمطار بورتسودان، ليتحرك الوزير فوراً بعد الرحلة الأولى، ويفتح قنوات التواصل مع عدة جهات من بينها شركتا بدر وتاركو للطيران، من أجل توسيع مظلة الإجلاء، وتمكين المزيد من السودانيين من اللحاق بأسرهم وديارهم بأمان، في تجربة إنسانية فريدة رسمت صورة مشرقة عن التضامن بين مؤسسات الدولة والمبادرات الشعبية الخالصة، فكان التنسيق مع سفارة السودان بسلطنة عمان لإجلاء عدد من العالقين المهددين بمهلة انتهت بنهاية شهر يوليو المنصرم، حيث تم تفويج أكثر من 1120 من السودانيين العالقين رغم وجود بعض المشكلات في مغادرة بعض الرحلات الجوية ناقصة العدد بسبب عدم معرفة المبادرة بجدولة الطيران الأمر الذي أدى إلى وجود بعض العالقين الذين سيتم إجلاؤهم لاحقاً مع بقية السودانيين الموفقين أوضاعهم والذين يرغبون في العودة إلى السودان، ونرجو أن تكون الرحلات عن طريق الجو، ويتم إلغاء السفر عن طريق البر الذي يواجه تعقيدات كبيرة في ظل وجود سماسرة ومنتفعين ومستثمرين في أزمة السودانيين العالقين.
حقيقة لم أكن أعرف دكتورة سارة عبد العزيز، إلا بعد تقرير نشرته على صحيفة الكرامة الغراء متناولاً معاناة السودانيين العالقين بسلطنة عمان، فاتصلت بي معاتبة لإغفال قلمي جوانب مهمة في قضية العالقين عززتها لي بالوثائق والمستندات، وعندما تواصلت مع بعض المصادر داخل السلطنة أكدوا لي صحة ما ذهبت إليه دكتورة سارة، فما كان مني إلا وأن تناولت قضية العالقين في تقرير ثاني وبرؤية مختلفة، فالتحية لدكتورة سارة عبد العزيز التي تحوَّلت إلى رمز إنساني مشرق وسط الجالية السودانية في سلطنة عُمان، يحظى بمحبة وتقدير لا يوصفان، إذ اجتمع حولها السودانيون من مختلف الولايات والانتماءات والخلفيات، ملتفين حول روحها الوطنية الصادقة، وتواضعها الجم، وتعاملها الإنساني الراقي، ونكرانها للذات، حيث ظلت تعمل ليلاً ونهاراً دون ضجيج أو استعراض، تنسق وتتابع وتُطمئن، وتحمل همّ أهلها كأنهم جزءً من كيانها، فاستحقت حب الناس واحترامهم قبل أن تنال أي تكريم رسمي.
ومهما يكن من أمر فإنه وفي ظل الصورة المشرفة التي رسمتها دكتورة سارة عبد العزيز الزبير للسودانيين في الخارج، فقد اصبح من الواجب الأخلاقي والوطني أن تلتفت الدولة إلى هذه المرأة الحديدية العطوفة، وتعمل على تكريمها تشجيعاً لها، وتحفيزاً لما ظلت تقدمه من جهد خالص ونبيل، ولعلي أذهب أبعد من ذلك فأدعو المنظمات والمؤسسات الناشطة في العمل الطوعي والإنساني للنظر في ترشيح دكتورة سارة عبد العزيز الزبير سفيرةً للنوايا الحسنة للسودانيين في الخارج، خصوصاً في ظل أزمة الحرب التي جعلت مئات الآلاف يواجهون مصاعب معيشية وقانونية واجتماعية في بلاد المهجر، فأمثال دكتورة سارة يمثلون الوجه الذي يجب أن يُقدّم باسم السودان، صوتاً للخير، وعقلاً مبادراً، وقلباً وطنياً رؤوفاً ورحيماً، فشكراً دكتورة سارة عبد العزيز الزبير، ويقيني أن اسمك سيبقى محفوراً في ذاكرة العائدين، وفي قلب كل سوداني حر.