في المشهد السوداني المضطرب تتداخل الحسابات الداخلية مع الإملاءات الخارجية، كما تتصارع إرادات البقاء مع مشاريع التفكيك. وسط هذا التعقيد، برز “فيلق البراء بن مالك” كتشكيل استثنائي في المقاومة الشعبية، يسعى إلى التواجد خارج ثنائية الحرب والسلام التقليدية، وخارج الاصطفافات الحزبية والأيديولوجية التي أثقلت كاهل البلاد منذ سقوط نظام البشير في العام 2019.
البيان الذي صدر بالأمس عن قيادة الفيلق، والذي نقلته عدة منصات إعلامية، جاء كوثيقة سياسية عكست وعيًا ناضجًا بطبيعة اللحظة التاريخية، ومحاولة واعية لرسم ملامح تموضع جديد في ظل التحولات الداخلية، إضافة إلى المعطيات الإقليمية والدولية.
الفيلق كما ورد في بيانه، لا يتبع أي حزب، ولا يسعى إلى سلطة، بل يطرح نفسه امتدادًا لمشروع المقاومة الوطنية، متحررًا من الخطاب العقائدي . ويستلهم رمزية البراء بن مالك كنموذج للتضحية والثبات، دون الاحتماء بشعارات دينية أو حزبية.
هذا التحديد الدقيق لهوية الفيلق يمثل في جوهره محاولة لتفكيك الصور النمطية التي لاحقته، والتي سعى البعض إلى استغلالها للنيل من مشروعيته. ولذلك، فإنه يقدم نفسه اليوم كفاعل منضبط، خاض المعركة ليس من أجل مشروع سلطوي، بل بدافع وطني أصيل، استجابةً لنداء رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
وقد أكد الفيلق في بيانه أن نشاطه يندرج ضمن إطار الدفاع المشروع، وبتنسيق تام مع القوات النظامية، رافضًا استهداف المدنيين أو الانخراط في أي أعمال ذات طابع طائفي أو انتقامي. هذا الموقف تحديدًا، يُفنّد بوضوح الاتهامات المتداولة بشأن ولاءات الفيلق أو أجندته السياسية.
أما التحوّل الأبرز، فتمثّل في إعلانهم عن انسحاب تدريجي من ساحات القتال، والعودة إلى العمل المدني، وفاءً بوعد أخلاقي قطعوه منذ البداية: أن السلاح وسيلة مؤقتة، وأن الحرب ليست غاية. هذه الخطوة – بتوقيتها ودلالاتها – تشكل لحظة فارقة، تستوجب إعادة قراءة المشهد السوداني من خارج منطق الحسم العسكري، دون الوقوع في فخ الاستسلام أو التسويات المخزية.
لم يطرح البيان خطابًا تفاوضيًا مباشرًا، لكنه حمل دعوة ضمنية إلى مسار سياسي جديد ، يقوم على الانضباط والمسؤولية، لا على الفوضى والتخوين. وبهذا التموضع يقدّم شباب الفيلق أنفسهم كجسر محتمل بين الميدان والمجتمع، وبين الجيش والمدنيين، بعيدًا عن الطموحات السلطوية، مستندين إلى رصيد من التضحيات والسلوك الأخلاقي المشهود.
أما التحول الأعمق في الخطاب، والذي يعكس نضجًا سياسيًا ملحوظًا، فهو التأكيد على أن الفيلق لا يسعى إلى إطالة أمد الحرب، بل يرى أن طريق النصر يمر عبر الانضباط والثبات، لا الفوضى. هذا التصور يعكس رغبة حقيقية في تجاوز منطق الحرب المفتوحة، والانتقال إلى مرحلة جديدة عنوانها: “المقاومة من أجل السلام”، لا الصراع على السلطة.
وهنا يتقاطع البعد الأخلاقي مع السياسي: فالفيلق لا يدّعي تمثيل الشعب، ولا يسعى إلى فرض مشروع بديل، بل يقدم نفسه كقوة عابرة للسياسة، قائمة على الواجب الوطني، ومتهيئة للانسحاب الطوعي متى ما انتفت الحاجة إلى وجودها المسلح.
وفي هذا السياق، يمكن فهم قرار الفيلق بالانسحاب بالتوازي مع إعلان رئيس الوزراء كامل إدريس عن تأسيس وحدة خاصة تُعنى بقضايا الشباب. كلا الخطوتين تشيران إلى وعي متزايد بأن أدوات التغيير لم تعد محصورة في السلاح أو الشعارات، بل في تمكين الفاعلين الحقيقيين – من مدنيين وعسكريين – لإعادة بناء الدولة. البراء ، في هذا المشهد، لا يطرح نفسه بديلاً عن أحد، بل يسعى ليكون جزءً من جبهة وطنية جديدة للبناء والتعمير، تتجاوز إخفاقات النخب، وتقلبات التحالفات، وصراعاتها الصفرية وتجاذباتها السياسية البائسة.
ما يميز خطاب الفيلق هو إدراكه لتحديات الداخل والخارج معًا. فهو يعلم أن التسويات المفروضة من الخارج لن تنتج سوى إعادة تدوير الأزمة، وأن الحرب المفتوحة لا تقود إلا إلى الإنهاك لا إلى النصر. لذا، فإن دعوته إلى المسار المدني ليست تراجعًا، بل تعبير عن وعي جديد يتبلور داخل التيار الإسلامي، وربما داخل المؤسسة الوطنية ككل: وعي يرفض اجترار الماضي، دون التفريط في التضحيات، ويسعى إلى المستقبل من بوابة الانتماء والولاء، لا الغلبة والاستعلاء.
صحيح أن البراء لا يملك وحده مفاتيح التسوية، لكنه قادر على أن يكون صمّام أمان أخلاقي لأي عملية سياسية قادمة. فوجود قوة قاتلت بشرف، ولم تتورط في انتهاكات، ولم تُرفع على سلاحها راية حزبية، يمنحها وزنًا نوعيًا مؤثرًا في أي حوار وطني، خاصة في ظل رفض واسع للدعوات السياسية الحالية، لما تعانيه من ضعف في المصداقية والتمثيل.
من منظور #وجه_الحقيقة ، يرسم “فيلق البراء” ملامح مسار ثالث، لا يخضع لإملاءات التسوية، ولا ينغلق في منطق الحرب المستدامة. إنه خيار وطني يتأسس على الانضباط والمسؤولية منهجًا، وعلى العدالة ووحدة الصف مدخلًا، وعلى سيادة القانون ضمانًا للمستقبل. وفي لحظة تاريخية تتقاذف فيها البلاد بين التشظي والانقسام، يفتح هذا المسار أفقًا جديدًا نحو استعادة الدولة والمشروع الوطني الذي يتطلع إليه السودانيون.
دمتم بخير وعافية.
السبت 2 أغسطس 2025م
Shglawi55@gmail.com