أخر الأخبار

سودان ما بعد الدولة: هل ما زال بالإمكان كتابة عقد وطني؟

د. عبدالناصر سلم حامد – باحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب، مدير برنامج شرق إفريقيا والسودان في مركز فوكس للبحوث

“الوطن ليس الأرض فقط، بل العقد الذي نكتبه مع أنفسنا.” — فرانز فانون (بتصرف)

هذا المقال لا يناقش فقط الحرب السودانية بوصفها مأساة إنسانية، بل يتجاوزها نحو سؤالٍ أعمق: هل لا تزال الدولة السودانية موجودة بوصفها فكرة قابلة للإحياء؟ إنه تأمل في انهيار العقد الوطني، وتفكك المعنى، وتحوّل الدولة إلى مجاز هش، يحكمه منطق القوة لا منطق الشرعية.

ليست الحرب وحدها ما يهدد السودان، بل غياب المعنى ذاته. في بلدٍ تتآكل فيه الخرائط كما تتآكل الرموز، لم تعد الدولة مكانًا للانتماء، بل كيانًا غامضًا يقف على حافة الزوال. والسؤال الأهم اليوم ليس متى تنتهي الحرب، بل: هل لا يزال هناك ما يكفي من الركام لبناء جمهورية جديدة؟

منذ سقوط نظام البشير، ظل السودان يتخبط بين فترات انتقالية هشة، وتحالفات غير مستقرة، وشرعيات تتبدل كلما تبدلت موازين القوة. ومع اتساع رقعة الحرب، انهارت مؤسسات الدولة وتراجع حضورها في حياة المواطن، فيما بقي ملايين السودانيين خارج معادلة التمثيل السياسي. الانهيار الذي يعيشه السودان اليوم ليس طارئًا، بل نتيجة لتراكم عقود من إضعاف الدولة المركزية مقابل تقوية الولاءات المناطقية والجهوية. فالدولة التي فشلت في بناء عقد اجتماعي بعد الاستقلال، انتهى بها المطاف إلى دولة تتآكل فيها المؤسسات من الداخل، وتُدار فيها السلطة كغنيمة لا كأمانة، في ما يُشبه نمط “الدولة الزبائنية” التي تتوزع فيها المنافع بناءً على الولاء لا على المواطنة.

حين تكون الدولة غير قادرة على حماية حدودها، ولا تقديم خدماتها، ولا حتى التعريف بمن هو المواطن فيها، فإن السؤال لم يعد: كيف نُصلحها؟ بل: هل يمكن إحياؤها أصلًا؟ هذا هو جوهر المأزق السوداني. فالكثير من المناطق التي تحكمها القوة المسلحة، تُدار بقوانين الأمر الواقع، حيث تُفرض الضرائب، وتُمنح التصاريح، وتُعاقب المخالفات… دون أي مرجعية قانونية وطنية. إنها سلطة بلا دولة.

في ظل هذا الانهيار، تبدو المؤسسات الإقليمية عاجزة، والمجتمع الدولي يتعامل مع الأزمة كمجرد ملف إنساني. ونتيجة لهذا الفراغ، برز لاعبون من خارج الدولة: ميليشيات، شركات أمنية، مرتزقة، وإدارات أهلية تملأ مكان السلطة الرسمية. ومع تداخل النزاع مع الأزمات في تشاد وليبيا وجنوب السودان، تحوّلت الحرب السودانية إلى نقطة التقاء للمرتزقة وشبكات السلاح والتهريب العابر للحدود.

إن أخطر ما أنتجته هذه الحرب ليس عدد الضحايا، بل فقدان الإحساس بالوطن. فالسودان لم يعد فضاءً جامعًا لهوية وطنية متخيلة، بل أصبح خريطة ممزقة تتنازعها الهويات القاتلة. فشلت المدارس في ترسيخ الانتماء، وفشلت النخب في تقديم سردية وطنية بديلة. ولذلك، يواجه السودان اليوم أخطر سؤال: من يحتكر المعنى؟ ومن يملك الحق في تعريف من هو السوداني، ومن ليس كذلك؟

لم يتم التفاوض يومًا على “عقد وطني” يُعرّف معنى السودان ولا يُنظّم العلاقة بين المركز والهامش، وهو ما يجعل السودان مثالًا صارخًا لما يُعرف في النظرية السياسية بـ”غياب الشرعية التأسيسية”. لذلك، ظلّت الدولة نفسها محل نزاع: هل السودان دولة عربية؟ إفريقية؟ إسلامية؟ مدنية؟ فيدرالية؟ وهذه الأسئلة الجوهرية تمّ تأجيلها لعقود، ليأتي انفجارها على هيئة حروب أهلية متكررة.

مع كل انقلاب أو أزمة سياسية، كان السودان يتراجع من دولة إلى سلطة، ومن سلطة إلى قبيلة. ومع تآكل التعليم، واحتكار الإعلام الرسمي، وتمييع الهوية الوطنية، تراجعت فكرة المواطن لصالح “المنتمي”، أي ذاك الذي يُعرَّف عبر قبيلته أو جهته أو لغته.

حتى قبل 15 أبريل، كانت مؤسسات الدولة منهارة وظيفيًا، والثقة بين المواطن والنظام السياسي مفقودة، والبطالة والفقر متفشية. الحرب لم تُنشئ الأزمة، بل فجّرتها بالكامل.

كانت الخرطوم تُعامَل بوصفها السودان، بينما تُترك بقية الولايات على الهامش سياسيًا وتنمويًا. لم يُمنح الإقليم صوتًا حقيقيًا، ولا تمثيلًا عادلًا، ما جعل الهامش يُطوّر سردياته الخاصة عن الاضطهاد والخذلان. وهو ما أنتج نخبة محلية متمردة على الدولة، تسعى للتمثيل بالقوة أو الانفصال.

الهويات في السودان ليست مجرد تعبير ثقافي، بل هي رد فعل سياسي على التهميش. وكلما فشلت الدولة في الاعتراف بالتعدد، ازدهرت الهويات القاتلة. وهذا ما يُعبّر عنه نظريًا بصعود “الهويات القاتلة” كما وصفها أمين معلوف، حيث تصبح الهوية سلاحًا في غياب دولة راعية للكل.

تجربة جنوب إفريقيا في تجاوز الفصل العنصري قامت على الاعتراف الجماعي بالألم، وتبنّي “لجنة الحقيقة والمصالحة”، وإعادة تعريف الهوية على أساس المواطنة. أما السودان، فقد تهرّب من مواجهة تاريخه الدموي، واختار الصمت بدل المحاسبة، والمحاباة بدل العدالة. لذا، فشل في إنتاج سردية جامعة تتجاوز الماضي إلى مشروع مشترك.

ولعل ما حدث في العراق بعد 2003 يقدم نموذجًا موازٍ لفشل بناء عقد اجتماعي جديد بعد انهيار الدولة القديمة. فغياب التفاهم الوطني حول الهوية والدولة أنتج اقتتالًا طائفيًا، وميليشيات، وتفككًا اجتماعيًا، وهو سيناريو يهدد السودان إذا لم يُعالج الجذر السياسي للأزمة.

من دون اعتراف جماعي بانهيار الدولة القديمة، ومن دون جرأة في طرح الأسئلة التأسيسية مجددًا، ستبقى كل المبادرات محاولات لإعادة ترميم ما لا يمكن ترميمه. إن مستقبل السودان لن يُبنى بالمصالحة الشكلية، بل بإعادة التفاوض على المفهوم ذاته: من هو المواطن؟ ما هي حقوقه؟ من يحكم؟ وبأي شرعية؟

في لحظة الخراب هذه، يمكن للسودانيين أن يختاروا: إما أن يُعادوا تدوير رماد الدولة القديمة، أو أن يكتبوا بأنفسهم فصلًا جديدًا من الحرية الجامعة والكرامة الوطنية. فالسودان لا يحتاج إلى رجل قوي، بل إلى عقد قوي. ولا إلى انتصار عسكري، بل إلى انتصار جماعي للمعنى والكرامة. فالخلاص لا يأتي من الخارج، بل من وعي جماعي يعترف بالألم ليبدأ البناء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × اثنان =

زر الذهاب إلى الأعلى