
بقلم: د. صلاح دعاك
من أجمل محطات حياتي في ميدان العمل الإنساني، تلك التي نبتت جذورها في سهول كردفان بعد تخرّجي مباشرة من كلية الطب. لم تكن تلك البدايات دخيلة على وجداني؛ فقد نشأت على العمل الطوعي منذ سنواتي الجامعية الأولى، وشاركت حينها في أنشطة صحية وتثقيفية عديدة، وقادتني الحماسة مع ثُلّة من الزملاء الطلاب إلى مبادرات ميدانية بالتنسيق مع منظمة اليونيسيف ووزارة الصحة الولائية.
كنت كذلك أقدّم برنامج الندوة الطبية في إذاعة كردفان العريقة، وبرنامج الندوة الصحية في تلفزيون كردفان، ورغم بساطة محتواهما، إلا أنهما كانا نافذتين فعّالتين نحو الوعي، خاصة في الأوساط الريفية، حيث تصل الكلمة المسموعة والمرئية إلى الناس بقوة التأثير وسهولة التلقّي.
كان الدكتور سعيد عوض الله حينها يشرف على برامج التثقيف الصحي وتعزيز الصحة بالولاية، وقد شاركتنا في تلك البدايات امرأة استثنائية تُدعى الحاجة نفيسة، الزائرة الصحية التي تحوّلت إلى مدرسة قائمة بذاتها في فن التوعية المجتمعية، تمتلك من الحكمة والخبرة ما لا يُقاس بالأعمار. كانت تتفاخر باعتزاز أنها تلقت تدريبًا في بريطانيا وجنوب أفريقيا، وتُحدّثنا عن تلك التجارب بروح عالية وكرامة لا تخلو من المحبة. كنا، نحن الطلبة، ننهل من معين خبرتها الصافي، ونشعل جذوة حماسنا من وهجها الإنساني المتقد.
عقب تخرّجي، سنحت لي فرصة الانضمام إلى برنامج تبادل طلابي ثقافي وعلمي في سلوفاكيا، حيث تعرّفت هناك على سعادة السفير د. نصر الدين شلقامي، الذي كان من أوائل من أثّروا في تشكيل وعيي الوطني خارج حدود السودان. دعاني قبيل السفر إلى مكتبه بشارع القصر، وهناك وجدت مجلسًا أنيقًا، يحتفي بالزوار والعقول، وكان الفنان الكبير عمر إحساس قد سبقني إليه. جلسنا نحتسي الشاي في تلك الأجواء المترفعة، فأدركت أنني أمام رجل يعرف كيف يغرس فيك الوطن بكلمة، وكيف يضع على كاهلك مسؤولية تمثيل السودان بمهابة ونبل. خرجت من مجلسه وأنا أحمل وصايا لا تزال ترنُّ في أذني إلى اليوم.
عدت من سلوفاكيا أواخر عام 2001، وتقدمت لفترة الامتياز، لكن صف الانتظار كان طويلًا على غير المتوقع. كتبت حينها مقالًا نقديًا بعنوان “أطباء على الرصيف”، وجهت فيه نقدًا لاذعًا، آنذاك، للدكتور الفاضل أبو جبل – رحمه الله – دون أن ندرك حجم الجهد الذي كان يبذله الرجل في صمت. تحدثت في المقال عن معاناة الأطباء الشباب، الذين ينتظرون شهورًا لبدء تدريبهم، ولم نكن نعلم أن الأيام ستتغيّر، ويصبح الانتظار اليوم سنوات.
ولأنني لا أجيد تضييع الوقت، تقدمت لوظيفة في منظمة أجنبية تعمل في مجال الصحة الإنجابية ومكافحة العادات الضارة، وقُبلت. وللمفارقة، وجدت نفسي في تجربة ذات طابع دولي، إذ كان المشروع مشتركًا بين السودان ومنطقة أواش في إثيوبيا، ومخيم داداب للاجئين الصوماليين في كينيا. أتاح لي هذا العمل فرصة التعلّم من ساحات متنوعة، والانخراط في مؤتمرات دولية، واكتساب خبرات ميدانية متعمّقة.
كان المشروع في جوهره بحثًا علميًا يقيس أثر التوعية الصحية في تغيير السلوك المجتمعي، وقد نُفّذ في أكثر من تسعين قرية بولاية شمال كردفان. اختيرت منطقتا “أم قرفة” و**”أم سيالة”** كمناطق تدخل مباشر، في حين كانت قرى مثل “أم دم” و**”زريبة الشيخ البرعي”** و**”الكويمات”** بمثابة قرى ضابطة للمقارنة.
بدأنا بتنظيم ورش ومحاضرات وندوات ميدانية، وكنت محاطًا بفريق شغوف ومتفانٍ. وفي إحدى ندوات “أم قرفة”، خرج رجل من وسط الحضور، وأمسك بالمايكرفون قائلًا بصوت جازم:
“شوفوا يا جماعة ويا الدكتور، الكلام ده لو ما الشيخ البرعي قال لينا فيه كلام واضح، نحنا ما بنخليه!”
كان يشير إلى موضوعات شائكة، مثل خفاض البنات، وزواج القاصرات، وتنظيم الأسرة؛ قضايا تتقاطع فيها التقاليد بالدين، والجهل بالخوف. أدركنا حينها أن العقبة الكبرى نفسية وروحية، وأن الحل لا بد أن يمرّ عبر رموز المجتمع الديني، وعلى رأسهم الشيخ البرعي.
قررتُ أن نذهب إليه مباشرة، ومعي المصور المبدع سلطان من تلفزيون الأبيض، وبعض الزملاء. استقبلنا الشيخ بترحاب يليق بمقامه، وشرحت له الأبعاد الطبية للممارسات الضارة، وقدمت له ورقة علمية كنت قد أعددتها. وقبل أن نسترسل، أُذّن لصلاة الجمعة، فابتسم وقال:
“نمشي نصلي، وبعد الخطبة تعال قول كلامك.”
داخل المسجد، جلست في آخر الصفوف، لكن الشيخ لم ينسَ، فناداني من على المنبر:
“وين الدكتور؟ نادوا الدكتور يقول كلامه.”
صعدت المنبر بخجل، وتحدثت بلغة الطب والوعي، وقدّمت مرافعة علمية أمام المصلين. بعد الصلاة، عدنا إلى الديوان، وسجلنا كلمة الشيخ البرعي بالفيديو. كانت واضحة، صريحة، لا لبس فيها. قمنا بتوزيع الأشرطة، وأجهزة التلفاز، ومكبرات الصوت في القرى، ودعونا كذلك الشيخ محمد أحمد حسن – رحمه الله – الذي لبّى الدعوة بطريقته البسيطة المحببة.
في “أم قرفة”، اجتمع الأهالي لمتابعة العرض. تحدثت أنا أولًا، ثم الشيخ محمد أحمد حسن، وأُعقب ذلك بكلمة الشيخ البرعي المسجلة. وما إن ظهر وجهه على الشاشة، حتى علت الزغاريد، فمعظم أهل القرى لم يروا شاشة من قبل، ولم تكن هناك وسائل حديثة أو هواتف ذكية. غير أن الرجل نفسه الذي اعترض سابقًا، عاد يمسك بالمايك مجددًا قائلاً:
“الشيخ البرعي ما بقول كده، دي دبلجة ساي!”
ساد الهمس، وشعرنا أن الحملة قد تُجهض و فاجأنا الرجل القروي البسيط بموضوع لم نحطاط اليه لم نكن نعلم انه يأتي بموضوع مثل هذا و يشكك الناس ، ففكرنا سريعًا. قررنا تنظيم ورشة تستهدف الأئمة، تعقد في قرية “الكويمات”، بالقرب من منطقة الزريبه مقر الشيخ البرعي. جمعنا إمامين أو قائدين دينيين من كل قرية مستهدفة. استمرت الورشة ثلاثة أيام، قدّمت فيها الرؤية العلمية، وتحدث الشيخ محمد أحمد حسن بإقناع وسلاسة. كان من المقرر أن يخاطب الشيخ البرعي ختام الورشة عند الثالثة عصرًا، لكنه تأخر حتى الخامسة، فتسلل الشك إلى بعض الحضور، وهمسوا:
“نحن عارفين الشيخ البرعي ما بوافق.”
لكنه حضر، وبكلمة موجزة بليغة، ختم الورشة، وبارك مخرجاتها، وتم إطلاق ما عُرف لاحقًا باسم “ميثاق الكويمات لمحاربة العادات الضارة”. عاد كل إمام إلى منبره، وبدأت القرى، الواحدة تلو الأخرى، في إعلان التخلّي عن تلك الممارسات، وأذكر من أوائل القرى التي بادرت قرية الحمراء.
قمنا لاحقًا بتأليف كتاب مبسّط لطلاب المدارس لمحاربة العادات الضاره اسميناه امر فرعون ، يجمع بين الرؤية العلمية التي قدمتها، والدينية التي كتبها الشيخ محمد أحمد حسن، ومباركة الشيخ البرعي. طُبع منه عشرة آلاف نسخة، بلغة قصصية تُناسب الأطفال، وتغرس فيهم الوعي منذ الصغر.
وفي لحظة إلهام، ذهبنا مع الاخ صلاح غانم رئيس جمعية تنظيم الاسره فرع الابيض نسأل الله له الرحمه و الاخ د. عبدالرحمن من اليونسيف فقد كان لهما بصمه واضحه في محاربة العادات الضاره في شمال كردفان فقد اقترحنا على الشيخ البرعي أن ينظم قصيدة تُجسّد المعاني الطبية في قالب شعري، فاستجاب بروح المريد المتعلّم، ونظم رائعته “الأيّاما”، التي جمعت بلاغة التصوف بوعي الطب، وإيقاع الشعر بصدق الرسالة حيث تطرقت بأسلوب ادبي درامي لطيف لكل المضاعفات الطبيه و النفسيه التي يسببها الخفاض الفرعوني للبنت في مراحل عمرها المختلفه و لا يفوتني ان اذكر جهود استاذنا الكبير الحلاج و الاستاذ الشيخ موسي شيخ الربع و الشيخ السنجك فقد كان فريق متكامل يعمل علي رفع الوعي في مجالات عده و كل الشكر للاخوه بمنظمة تنظيم الاسره السودانيه بشمال كردفان و كل الجهات التي ساهمت في رفع الوعي في ذلك الوقت .
تلك كانت تجربتي في كردفان، تجربة إنسانية متكاملة، تعلمت فيها كيف يكون لعلماء الدين والمتصوفة دور حقيقي في قضايا الصحة والوعي، وكيف يمكن أن تُهزم ممارسات راسخة بالكلمة الصادقة، والحوار المحترم، والشراكة المجتمعية.
رحم الله الشيخ البرعي، الإمام الذي لم يكن مجرد فقيه، بل كان أمةً تمشي على الأرض. والتحية لزملائي، وللجان الصحة في القرى، ومعظمهم من معلمي المرحلة الابتدائية، الذين شاركوني الحلم، وساعدوا في أن نغرس معًا بذور التغيير.