
بقلم: د. عبد الناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق أفريقيا والسودان في مركز فوكس
متخصص في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب
منذ اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، يعيش السودان واحدة من أكثر لحظاته خطورة وتعقيدًا. فالصراع لا يدور فقط حول من يحكم، بل حول ما إذا كانت الدولة السودانية ستبقى أصلًا. هذه ليست حربًا أهلية تقليدية، بل معركة على هوية الدولة ووحدة أراضيها ومصير مؤسساتها.
في ظل هذا الواقع، لا مكان للحياد، ولا جدوى من الصمت. السؤال الحقيقي اليوم هو: من يحمي السودان من الانهيار الكامل؟
الجيش كآخر خطوط الدفاع عن الدولة
مع تآكل سلطة الدولة وتوسع دائرة الفوضى، بات الجيش السوداني الجهة الوحيدة التي تحاول الحفاظ على الحد الأدنى من السيادة والنظام. دعم الجيش في هذا السياق لا يُعد انحيازًا سياسيًا، بل تمسكًا بآخر أعمدة الدولة في مواجهة مشروع تفكيكي واضح المعالم.
على الجانب الآخر، تحوّلت قوات الدعم السريع إلى كيان مسلح خارج عن الشرعية، يقوم على الولاءات القبلية والدعم الخارجي. وقد وُثقت بحقها جرائم وانتهاكات جسيمة، من التطهير العرقي والاغتصاب إلى التهجير القسري والنهب، كما تشير تقارير صادرة عن الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية.
هل يُعقل أن تكون مليشيا كهذه بديلًا عن الدولة؟
وهل من الحكمة أن نساوي بين مؤسسة وطنية، وإن كانت بحاجة للإصلاح، وبين قوة مسلحة تتحدى مفهوم الدولة أصلًا؟
دروس من تجارب الدول المنهارة
التاريخ القريب يعطينا الإجابة.
في العراق، أدى حل الجيش إلى فوضى طائفية ومليشيات مسلحة.
في ليبيا، أدى غياب الجيش إلى تقسيم البلاد.
في اليمن، تفكك الجيش فاندلعت الحروب الأهلية.
في أفغانستان، انهار الجيش فاستولت “طالبان” على السلطة.
وفي الصومال، ارتبط غياب الجيش بغياب الدولة نفسها.
الخلاصة واحدة: حين يسقط الجيش، تسقط الدولة.
والبديل ليس ديمقراطية مدنية، بل فوضى وانهيار وتشظٍ دموي.
دعم الجيش لا يعني عسكرة الدولة
لا أحد يطلب حكمًا عسكريًا، ولا أحد يبرّئ الجيش من الأخطاء.
لكن في لحظة وجودية كهذه، يصبح دعم الجيش خطوة واقعية لمنع الانهيار الكامل، وتهيئة الطريق لاحقًا نحو انتقال سياسي حقيقي. هذا الدعم لا يجب أن يكون مطلقًا، بل مشروطًا باستعادة سيادة الدولة، وإنهاء سلطة المليشيا، والعودة إلى مسار سياسي مدني بمجرد انتهاء المعركة.
الديمقراطية لا تُبنى في فراغ، ولا تحت فوهات البنادق الخارجة عن سيطرة الدولة.
لا حرية بلا مؤسسات، ولا إصلاح بلا أمن، ولا وطن بلا جيش.
رسالة إلى الداخل… والخارج
السودان لا يحتاج إلى حرب جديدة، بل إلى نصر وطني يعيد له اسمه وحدوده وهيبته.
من يقف مع الجيش اليوم لا ينحاز لحكم العسكر، بل يتمسّك بما تبقى من الدولة، ويقاوم الانزلاق نحو السيناريوهات التي دفعت شعوبًا بأكملها إلى التشرد والانهيار.
وإذا كان المطلوب من السودانيين أن يختاروا بين الفوضى وبين مؤسسة قابلة للإصلاح، فالخيار واضح.
لكن المسؤولية لا تقع على السودانيين وحدهم.
على المجتمع الدولي أن يتوقف عن التعامل مع أزمة السودان كصراع داخلي معقّد لا حل له.
إن غضّ الطرف عن انهيار دولة بهذا الحجم وفي هذا الموقع الجغرافي الحساس، لن يترك أثره داخل السودان فقط، بل سيعيد تشكيل خريطة التهديد في منطقة القرن الأفريقي بالكامل، من البحر الأحمر إلى دول الساحل.
إذا لم يتحرك العالم الآن، فالقادم لن يكون مجرد دولة فاشلة… بل منطقة مشتعلة جديدة على خارطة الفوضى الدولية.
السودان لا يُقاتل من أجل سلطة… بل من أجل ألا يُمحى