حديث السبت – يكتبه يوسف عبدالمنان

..

اعترافات بشارة سليمان، وكير ستارمر البريطاني .
لماذا ترفض النخب العسكرية تشكيل حكومة قوية تدير البلاد؟
امتحانات الشهادة السودانيه ومأزق الأمن في الخرطوم.
سقطت شعارات التهميش بحرمان المليشيا الطلاب للجلوس للشهادة السودانية.!!

1️⃣
شكلت الاعترافات التي جاءت على لسان القيادي البارز في الحكومة التي يطلق عليها خصومها حكومة بورتسودان، ويطلق عليه الشعب السوداني برمته حكومة الأمر الواقع، شكلت تلك الإعترافات علامةً فارقةً، وحدثاً هاماً، لم يجد القراءة المتأنية، لظاهر سطوره، ولا باطنها، من قبل النخب في السلطة الحاكمة، ولا المعارضة، ولا كتاب الرأي، المنقسمين مابين دائرة القصر، الذي أصبح افتراضياً ولا المتحلقين حول المليشيا، ينظرون إلى جيوبها أكثر من التحديق في وجهها. وتأتي أهمية اعترافات بشارة سليمان القيادي في حركة العدل والمساواة، بل هو الرجل الثاني في الحركة من حيث الفاعلية، والحضور السياسي والاجتماعي، والانفتاح على الناس، رغم أنه يتم وصفه وظيفياً بمستشار رئيس الحركة السياسي. ولكن قادة الأحزاب يستمدون أهميتهم من درجة تاثيرهم السياسي وفاعليتهم في الإعلام، لا بالمقاعد التي يتسنمونها في دولتهم أو كياناتهم السياسية والاجتماعية، التي ينتمون اليها. وبشارة سليمان نظرياً هو من قادة الحكومة الحالية، وبالتالي شهادته عن أدائها تمثل اعترافات، وليس مجرد أراء تذهب في هواء الشتاء البارد. ولكن الأمر الواقع، ومايحدث في السودان من اختزال للسلطة في يد نخبة محدودة جداً من المتنفذين، جعل بشارة سليمان يكتب مقالته الخطيرة، والمثيرة جداً في الفضاء الإعلامي، بينما كان ينبغي له التعبير عن هذا النقد داخل البيت الحكومي، والإفصاح عنها أمام البرهان، ونائبه العسكري شمس الدين كباشي، ونائبه التنفيذي مالك عقار، وامام رئيسيه د.جبريل بحسب تراتبية الحركة. وأهمية مقال بشارة سليمان في السودان، لاتقل عن أهمية مقال رئيس الوزراء البريطاني كير ستامر، التي نشرها الأسبوع الماضي في الصحيفة الشعبية الأولى في بريطانيا (الشمس) وأثارة جدلاً واسعاً خاصة في وسط النخب السياسية في العالم العربي، لما انطوت عليه من أراء خطيرة جداً حول العلاقة مع الإسلام، والتحدي الذي يواجه الغرب، مابين الالتزام بالقيم الليبرالية والديمقراطية، ومابين مطلوبات الأمن القومي للغرب، مما يتطلب اتخاذ إجراءات، وسن قوانين تحد من القيّم الإسلامية، وقال إن الأنظمة التي تحكم الدول الإسلامية والعربية هي انظمة موالية للغرب، ومتماهية معه، رغم التناقض مابين طبيعتها كأنظمة قمعية دكتاتورية، تستمد مشروعيتها اما بالغلبة والإستبداد أو الوراثة، التي تمثل أدنى درجات الانحطاط القيمي في عالم اليوم.
ومن تقاليد المجتمعات الغربية أن النخب الحاكمة تكتب ماتعتقد بأنه صواب في الصحافة الغربية، ولايمثل المنصب الرفيع كابحاً يحول دون المسؤولين وعامة الشعب، وكل وزراء الخارجية والأمن والدفاع ورؤساء الحكومات يكتبون مقالات في الصحف، وتجد تلك المقالات حظها من الحوار والجدل معها أو ضدها. ولكن في عالمنا لايكتب الوزراء ولا كبار جنرالات الجيش الحاكمة لأنهم يعتبرون الكتابة في الصحافة تحط من قدرهم العالي، ومكانتهم الرفيعة، التي يستمدونها من كراسي السلطة، لا برافعة العلم والثقافة، وأن كان هناك استثناء في السودان، فهو استثناء غير قابل للتكرار مرة أخرى، مثل حال دكتور منصور خالد وزير خارجية السودان، وجمال محمد أحمد. وفي سنوات الإنقاذ كان دكتور امين حسن عمر يكتب من حين لآخر، وكتب يوماً أحمد هارون مقالا ارغمته أحداث عظام عليه. والان في الحكومة الحالية لو كتب البرهان عن أسباب النزاع الحالي لأضاء في عتمة المشهد الكثير مما اشكل على آمثالنا، ولو كتب شمس الدين كباشي عن الاتفاق الذي وقعه في المنامة مع عبدالرحيم دقلو، وخفايا ماجرى لسد ثغرات عديدة تسلل منها الشك، لوجود تيارين داخل النخبة العسكرية، ولو كتب إبراهيم جابر وهو رجل عميق ومثقف جداً، ويتحدث الانجليزية كأنه من مقاطعة ويلز، لأسهم في جرعات الوعي بطبيعة الحرب الحالية، ولكنهم لن يفعلوا ذلك اتقاء تقاطع الأفكار، والردود المتوقعة معهم، أو بعيداً عنهم، ومن في السلطة لاتطربه إلا مزامير المدح، ويغضب وينأي بنفسه عن الناصحين بغرض أو الناصحين بحق. وفي التاريخ الإسلامي تمثل تجربة خلافة سيدنا عثمان بن عفان درساً في القيم الحوارية، وتجربة يتعلم منها كل ذو بصر وبصيرة، وكيف استحوز الأقرباء والعشيرة على الشيخ الكبير، واستغلوا ضعفه، ووهن سيطرته على الأمصار والولايات، واخيراً دفع ثمن ذلك أن قُتل، وفتحت نوافذ الفتنة، وجاء ملك الأمويين الذي يمثل عصبة القومية العربية أكثر من خلافة الراشدين. ودعنا من ما قال ابن تيمية عن تجربة الخليفة عثمان، ومن قول ابن حجر، ونعود لما قال بشارة سليمان في مقاله الخطير والمثير.
2️⃣
مقالة بشارة سليمان التي جاءت من غير عنوان، ربما اختار الكاتب لحسابات تخصه أو بسبب عدم المامه بتقنيات الكتابة، باعتباره سياسياً محترفاً ومقاتلاً قديماً أرغمته علل الحكم، الذي هو حليفٌ رئيسيٌ فيه على ارتياد فضاءات ليست من فضاءات خبرته، ولكن تبدت براعةُ الرجل في التعبير، ودقةٌ في التوصيف، وشجاعةٌ في التشخيص، ولما يأبه لغضب البعض منه أو اطراء أمثالنا، لما أقدم عليه من فعل إيجابي، وسلوك حضاري في التقويم، والاعتراف. وأهم ماجاء في المقال أن بشارة سليمان الذي يكني بالسلطان لترفعه عن الصغائر، وتواضعه، وانفاقه، من جيبه على سد بعض عورات الحكم، الذي هو منه، ومكتبه المفتوح لكل الناس، مما جعله قبلةً لمن لاقبلة له، *ولكن بشارة يعدد أسباب الضعف في الواقع المزري للجهاز التنفيذي للدولة، من حيث ضعف الكفاءات، وغياب الدستور والقوانين، وحالة عدم الاستقرار في الجهاز التنفيذي، وإدارة الدولة بوزراء مكلفين، أغلبهم من التكنقراط، من وكلاء الوزارات وهؤلاء بطبيعته الحال تسيطر عليهم العقلية الوظيفية، ويفتقر أغلبهم للحس السياسي، مما أضعف الدولة.* واعتبر بشارة أن النخبة العسكرية الحاكمة وبعض التوصيفات هي من عند الكاتب لم ترد في متن مقال الرجل امعانا في التحكم والسيطرة جعلت الوزارات في الحكومة الاتحادية تحت إشراف أعضاء مجلس السيادة مما جعل الوزير تحت رحمة وهيمنة المشرف وهذا واقع ربما يختلف البعض فيه مع الكاتب، ويزعم بأن المشرف باعتباره موصولا بمركز القرار في الدولة من شأنه مساعدة الوزير وذلك قولا مردودا عليه فالمشرفين في الأصل ليس لهم خبرات مرجعية ولا تجارب في الحكم أفضل من الوزراء فهل مثلا مالك عقار يملك خبرة وتجربة أفضل من الأعيسر في إدارة الشان الاعلامي وهل كباشي مثلا يملك تجربة وخبرة تجعله يهدي السفير على يوسف سبل الرشاد؟ وهل البرهان له من التجارب أفضل من الفريق يسن إبراهيم وهل إبراهيم جابر له في الاقتصاد مالا يتوفر لجبريل إبراهيم ووكيل المالية عبدالله إبراهيم؟؟
وهل هناك من هو أكفا من محمد كرتكيلا في معرفة الحكم الاتحادي؟ وهو الذي تعلم من محمود حسيب في 1977م كيف تدار المحافظات، التي أصبحت ولايات، ويقول بشارة سليمان أن ضعف الأداء الخارجي للحكومة جعل الساحة الخارجية مفتوحة إلى المليشيا حيث يتحرك محمد حمدان دقلو في فضاء أفريقيا وفشلت الدبلوماسية السودانيه حتى في إقناع الأفارقة بطبيعة الحرب، وضرب الرجل مثلا بتجربة الإنقاذ وجهاز الأمن في تشكيل مجموعة ( السيسا) وهي تحالف لمدراء الأجهزة الامنيه في أفريقيا لمكافحة الجريمة العابرة، وتبادل المعلومات، وكيف استطاعت الإنقاذ استخدام هذا التحالف في خدمة قضايا السودان، وانشغالاته في ذلك بقضية المحكمة الجنائية الدولية، ويعترف بشارة بأن الضعف السياسي لأداء الحكومة هو من يهب خصومها في قحت قبلة الحياة، *بتردد الرئيس في تنفيذ رؤية سياسية، تبدأ بتشكيل حكومة حقيقية، برئيس وزراء له سلطات وصلاحيات، ويجتمع مجلس الوزراء ويقرر في شأن المشكلات التي تواجه البلاد، وليس مجلس وزراء شكلي لايعدوا كونه بعض من المساحيق لتجميل وجه حكومة يديرها عدد محدود من المتنفذين.* وكما قلنا في مفتتح المقال لم تجد المقالة حظها من الحوار، والتداول، وحتى هذه المقالة ربما لايابه لها أحدٌ من أصحاب الشأن. ومن سخريات هذا الزمان حدثني أحدهم، ونحن عصبة هرعنا إليه ظانين فيه خيراً في قضية عامة، فاسدي لشخصي نصيحةً، ظناً أني في حاجةٍ لها، لإصلاح ما أكتب، فقال إنه شخصياً لايقرأ المقال الطويل، ولا وقت له، ومن الأفضل كتابة المقال القصير من أسطر معدودة جدا (زمن مافي) طبعا مثل هذا لم يقرأ مقدمة ابن خلدون ولم يقع بين يديه كتاب عجايب الأمصار وغرائب الأسفار لخير الدين التونسي، ولا يعلم إن كان محمد إقبال مفكراً ام لاعب كرة قدم في فريق انترخت فرانكفورت، لذلك ظل أهل الحكم في بلادنا كل عام يرذلون، كما كان يقول الصحافي الراحل على حامد رحمه الله.
3️⃣
تبدا اليوم السبت امتحانات الشهادة السودانية في بعض ولايات السودان، وحُرمت منها بعض الولايات، بأمر المليشيا جالبة الديمقراطية!! وبسلطان السلاح، وقهر الشعب، وسط تحديات كبيرة تواجه العملية التعليمية في البلاد، وقد أعلنت المليشيا جهراً رفضها لجلوس الطلاب للامتحانات، وحرمانهم من حقهمَ في التعليم، والمليشيات أصلاً لاتعبأ بمسألة حقوق الإنسان، ولكنها تتحدث عن محاربة التهميش، وهي التي تفرض مزيداً من التهميش على المهمشين في الأرض.
تبدأ ساعة الإمتحانات ظهراً علي غير العادة، وتفرض على القيادة العسكرية في البلاد الاستعداد لأسوأ الاحتمالات، خاصة في ولايات الخرطوم، ونهر النيل. والمليشيات لن تتورع في شراء المصادر الرخيصة من المتعاونين معها، لمدها بإحداثيات مقار الامتحانات، لقتل الطلاب عمداً، حتى يشبع حميدتي مزيداً من دماء الأبرياء والأطفال. وبالتأكيد وضعت القيادة العسكرية خطة استباقية لدرء خطر التدوين والمسيرات، التي ربما تطلقها المليشيا على مراكز الامتحانات، لإفشال العملية التربوية والتعليمية، وحصاد سنوات طويلة لأبنائنا الطلاب وهم يتطلعون إلى مستقبل زاهر، وأسرهم تتمني أن تراهم في الجامعات. ولو كانت المليشيا تأبه للرأي العام وتستثمر في الشعب، لفتحت المدن والطرق وساعدت الطلاب للوصول لمراكز الامتحان. وليس حرمانهم بدعوى محاربة الحكومة، وليت تمرد المليشيا الذي يصفق له كثيرون من التائهين، تعلم من تجربة ليبيا وسوريا واليمن والصومال في الحرب، وتقديس ماهو قومي مثل البترول والتعليم والكهرباء والخدمات الطبية، ولكن دعاة محاربة التهميش في بلادنا، يرفضون اليوم للطلاب الجلوس لامتحانات الشهادة، حتى يستثمروا في الجهل والأمية، ويساق الناس من ورائهم كقطعان الماشية للحرب، لأن التعليم والوعي أفشل مشروعهم الشيطاني الإستيطاني، وهزم مشروع القتل والسحل واللصوصية، لذلك فرضت المليشيا على كل ولايات دارفور عزلةً عن السودان، وفرضت الغياب القسري على طلاب جبال النوبة، وغرب كردفان، والجزيرة وبعض أجزاء من ولايه الخرطوم. ولكن إرادة المعلمين وإصرارهم على التضحية من أجل مهنتهم الشريفة، جعلهم يضحون بكل شي، من أجل إقامة امتحانات الشهادة في هذه الظروف الصعبة، علي الرغم من تقصير الحكومة في صرف رواتبهم !! ولكن اذا كانت النفوس كبارا تعبت من أجلها الأجسام، فهذه نفوس تغذيها القيِّم والمبادئ الوطنية. ولعل هذه المحنة والمسؤولية الكبيرة في إقامة الإمتحان القومي الموحد للشهادة السودانية، والذي بلغ حالة التحدي القصوي التي فرضتها المليشيا الباغية، يفتح الباب للنظر في جدوي اتباع نظام تعليمي حديث، أخذت به دول مثل تونس والأردن والجزائر، بإنتهاج عملية القياسات النسبية، لتحديد الطالب المؤهل، بمجموع ماحصل عليه من درجات، خلال ثلاث سنوات، وتحديد قدرات الطالب، هل يذهب للمساق الأدبي أو العلمي أو الفني؟ فإن السودان لايزال متمسكا بالنظام القديم وهو الامتحان الموحد لدخول الجامعات. وبغض النظر عن عدالة هذا النظام او الإستمرار في تنفيذ نظامنا التقليدي، فإن مليشيا الجنجويد تريد ان يبقي السودان خارج مساق المعرفة والعلم، ولكن هيهات .. هيهات ..
وإن منع آلاف من طلابنا من حقهم الإنساني للجلوس للإمتحان، هذه الجريمة الكبري، يسطرها التاريخ في سجل الدعامة الإجرامي وحاضنته قحت، ويظل السودان شامخاً، مهداً للعلم، وداراً للعلماء، ومنارةً لشعبه وللشعوب العربية والافريقية.
يوسف عبدالمنان..
28ديسمبر 2024م
صحيفة الكرامة.

Exit mobile version