الانصرافي،، الشبح والكاهن الخرافي

..

سر تأثير الرسالة الإعلامية لرجل مجهول الهوية..

امتلك أهم الأدوات في جمع المعلومات والقدرة على التحليل والتنبوء بمآلات الأحداث..

يتابعه ويختلف حوله الملايين على مختلف منصات التواصل الاجتماعي..

ساهم في الإطاحة بالبشير، وإبعاد قوى الحرية والتغيير..

تقرير إسماعيل جبريل تيسو

لعلنا نتفق جميعاً على أن الشفافية والوضوح من أهم الآليات التي تسعى المؤسسات الإعلامية إلى تطبيقها في دعم وإسناد ما تقدمه من محتوى أياً كان نوعه، فكرياً أو صحفياً أو سياسياً بحيث تعزز هذه الشفافية من مبدأ المصداقية والثقة المتبادلة ما بين المؤسسة المعنية والمتلقي، ولكن أن يُقَدم محتوىً ما من جهة مجهولة ويحظى بترقب الناس ومتابعتهم، فإن هذا ما يبدو غريباً وعجيباً، يستحق التشريح والتحليل.
شَغَل القلوب والأفكار:
الانصرافي الرجل ذلك المجهول، ورغم أنه يحتجب من وراء اسم وهوية مستعارة، وشخصية يكتنفها الغموض، إلا أنه ظل محل اهتمام وانشغال الناس الذين باتوا ينتظرونه بشغف كبير كل ليلة، ليتابعوا ما يقدمه من محتوى إعلامي وسياسي، يحبس أنفاس، ويشغل أسماع وأفكار وقلوب وأفئدة متابعيه، وتضجّ به الفضاءات ومنصات التواصل الاجتماعي، التي تحتفي بإطلالاته المباشرة ” لايفات”.

متابعة هستيرية:
ومع اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣م، ارتفعت معدلات متابعة الانصرافي بشكل لافت وهيستيري، حيث أصبح ظاهرة ( تعدل مزاج ) الكثيرين، على مواقع التواصل الاجتماعي، وتجاوزت مشاهداته على منصة يوتيوب ٤٥ مليون، فيما سجلت قناة الانصرافي على يوتيوب ما يزيد عن ٧٥ ألف متابع، وأكثر من ٢٠٠ ألف متابع على منصة إكس، وتيك توك، فيما تحصد إطلالته المباشرة على منصة فيسبوك أكثر من ٣٠ ألف مشاهد في الليلة الواحدة، خلاف الإعادات.
سرٌّ باتع:
فما السرُّ الباتع الذي جعل من الانصرافي محوراً لكل هذا الاهتمام، ومٌوجِّهاً للرأي العام؟ ولماذا تحظى رسالته الإعلامية بهذه الضجة والمتابعة القوية؟، البعض يصف المحتوى الذي يقول به الإنصرافي بالمضمون المتفلت، والمتضمن لبعض القيم السوقية، المرتبطة بشخصيته النرجسية، فيما يرى البعض الآخر أن الانصرافي يقدم محتوى مفيداً وقيِّماً، يتضمن قيماً علمية ونفسية أصبحت مثار بحث واهتمام أكاديميين وأساتذة جامعات.
براعة مُرسِل:
تقول دكتورة نجلاء بخاري الأكاديمية والمحاضرة بالجامعات السودانية إن الانصرافي يمتلك ناصية البراعة الواجب توفرها في مرسل المحتوى، لذلك ينجح في توصيل رسالته بوضع كل مكونات الرسالة من حيث الأهداف ( يعرف تماماً ماذا يفعل)، ويدرك كيفية إيصال هذه الأهداف باستعراض المعلومات ونشرها بطريقة خاصة، فيحاصر أسماع المتلقي، ويلامس أمنياته وما يرجو تحقيقه على الأرض، خاصة مع غياب الآلة الإعلامية وغياب أجهزة الدولة المعنية، وارتفاع صوت الغضب والانفعال وسط المجتمع، وتضيف دكتورة نجلاء أن الانصرافي استفاد من هذه العوامل وسخّر الخامة الصوتية الجهورة التي يتمتع بها، في جذب اهتمام وشغف الناس، والأذن تعشق قبل العين أحياناً.
إدمان:
ويتفق الناشط الاجتماعي مصطفى آدم عبد الله مع دكتورة نجلاء في تميز نبرة الصوت عند الانصرافي واستخدامها في التأثير على المتلقي، ويضيف مصطفى أنه ظل يتابع للانصرافي منذ العام ٢٠١٧م، لدرجة وصلت حد الإدمان بحيث يعجز تماماً عن النوم ما لم يستمع إلى الانصرافي في إطلالة مباشرة أو مسجلة، وقال مصطفى إن ما يميز الانصرافي هو كثافة المعلومات، ومعرفته بأدق تفاصيل الأحداث اليومية على مستوى السودان، وكأنه يمتلك شبكة من المراسلين، هذا فضلاً عن قدرته على صنع الحدث، مستشهداً في ذلك بدوره الإعلامي في الإطاحة بنظام البشير، وتأثيره على إزاحة القحاتة من المشهد، وترجيحه الكفة الميدانية لصالح الجيش بالتعبئة العامة والاستنفار في حرب الكرامة الوطنية، ضد ميليشيا الدعم السريع، ويختم مصطفى آدم عبد الله حديثه لصحيفة الكرامة بالإشارة إلى ما وصفها بحالة تحفيز ذكية ظل الانصرافي يستخدمها قبل كل بداية إطلالة مباشرة، وهي توظيف فنانين كالحوت محمود عبد العزيز، وندى القلعة، وميادة قمر الدين وآخريات كمحفزات لتجميع المتابعين.

مشروع جدير بالدراسة:
الإنسان بطبعه يعشق الغموض، والزول السودانى يُنشَّأ بحكاوٍ تتبادلها الأمهات عن قصص الحبوبات المخاطبة للوجدان والمزاج اللحظى، هكذا بدأ الأستاذ الصحفي عاصم البلال رئيس تحرير صحيفة أخبار اليوم مداخلته لصحيفة الكرامة، وقال إنه لا يتابع الانصرافى لكون رسالته مجهولة المصدر ومشكوك بأنها صنيعة لهؤلاء أو أولئك، ولكنه يعلم علو كعب متابعة الانصرافى وذكاءه، وقال إن مشروع الانصرافي الافتراضي، أياً كانت الحقيقة، فهو يشكل حالة جديرة بالدراسة، متوقعاً أن يفقد الانصرافي بريق المتابعة، في حال كَشَف عن هويته، وأزالَ الغموض الذي يكتنف شخصيته، وأرسل عاصم البلال تحيات خاصة للانصرافى ولمعجبيه من يثبتون بلوغ رسالته وتأثيرها بدوام المتابعة، متمنياً أن ينصلح الأحوال، وتصبح مصادر الأخبار والمعلومات شخصيات وجهات معروفة بسيرها الذاتية، وزاد” هذا لا ينفى حق المجهولية الإعلامية كعرفية وتقليدية”.
سوبر مان العصر:
وتقرُّ الأستاذة سارة التني الباحثة في علم النفس الجنائي، بتأثير الانصرافي على متابعيه برسالته التي قالت إنها يخاطب بها الانصرافي جزءاً مهماً في التركيبة اللإنسانيه يتمثل حب الاستطلاع والمعرفة، والعرف على ما يدور حوله من أوضاع خاصة في ظل ظرف استثنائي كالحرب التي جاءت بسرعة البرق حسب تعبيرها، وتطنب الأستاذة سارة التني على نباهة الانصرافي وتصفه بسوبر مان عصر المعلوماتية لكونه استطاع التأثير على النفس البشرية من خلال كشف المستور، والاختفاء، والاختباء وهو شكل من أشكال السيطرة على ذهنية المتلقي.
منطق حصيف غير كيزاني:
بطرحه الفلسفي العميق يقول الكاتب الصحفي والقانوني الأستاذ أشرف خليل إن الناس مجبولون على اصطياد الأشخاص لا أفكارهم، وأن الجرح والتعديل لا يبدأ من الفكرة وألمعيتها أو ضآلتها، وإنما يبحث في الشخوص (من هو المتكلم)؟!، مبيناً أن البحث يمتد غائراً في الشخصية للتنقيب عما بشجع على المضي قدماً في الأخذ والتلقي أو الترك والإهمال، وذلك موسم دائم الانعقاد بمقاصله ومشارطه وأبواقه وطبوله حسب تعبيره، ويقول خليل إن الانصرافي وهو يخفي نفسه (تخارج) من ذلك (الكمين) واخذ الناس إلى تأجيل الإجابة على سؤالهم الافتتاحي:
(الزول دا منو)؟!، مبيناً أن الحرب اندلعت في وقت كان يبحث فيه الناس عن منطق حصيف يستوعبهم ويستوعب حيرتهم، ولكن إحدى شروطهم المهمة ألا يقول به (كوز).

قِبلة لتلقِّي المعلومات:
ويسرد الإعلامي الركابي حسن يعقوب عدة عوامل قال إنها تقف وراء تأثير الرسالة الإعلامية للانصرافي، فبجانب غموض الشخصية وامتلاكه المعلومات وقدرته على التحليل، وتميزه بالصوت الجهور، يقول الركابي إن الانصرافي يتميز بالجراءة وعدم التحفظ في بث المعلومات وتقديم الإفادات، هذا فضلاً عن امتلاكه براعة الاستقراء ومن ثم التنبؤ بمآلات الأحداث، ويضيف الركابي يعقوب أن الحضور المتميز للانصرافي في السوشيال ميديا جعله قبلة تيمم شطرها المعلومات من كافة الجهات والأطراف المختلفة في الساحة السياسية حيث أصبح رقماً لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال كلٌّ يريد أن يوصل رسالته عبر الانصرافي.. مما جعل لدى الانصرافي روافد ومصادر معلوماتية رفيعة نوعية وكمية يقوم بمعالجتها مستخدماً ذكاءه وقدراته التحليلية الكبيرة.
وبعدُ،، فإن الضجة الكبيرة التي يثيرها الانصرافي على منصات التواصل الاجتماعي وفي المشهد السياسي، بين معارضين ومؤيدين، ارتكازاً على المحتوى الذي يقدمه، تجعل من الرجل حالة أو ظاهرة، تتطلب أن يُسبر أغوارها بالبحوث وإعمال الدراسات في مؤسسات أكاديمية وعلمية متخصصة في دراسات الرأي العام وعلوم الاتصال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى