الراصد – فضل الله رابح – ( كرتي .. كسب الثقة والنقاط)

منذ أيام وأنني أفكر حول ما جدوي قرار مكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأميركية التابع لوزارة الخزانة الأميركية، والمعروف باسم «أوفاك» فرض عقوبات جديدة على شخص الأمين العام للحركة الإسلامية في السودان علي كرتي، ضمن شركتين تتبعان قوات «الدعم السريع»، لدورهم في تقويض السلام والأمن والاستقرار في السودان كما ورد في النص… حاولت أن أفهم دواعي الربط بين إقحام (علي كرتي) في هذا القرار الذي يعد الثالث منذ بدء الحرب، إذ فرضت عقوبات على شركات تتبع «الدعم السريع»، وفي مرة ثانية اتجهت العقوبات نحو الرجل الثاني في الدعم السريع عبد الرحيم دقلو نائب قائد قوات «الدعم السريع» وشقيق محمد حمدان دقلو «حميدتي»، لم أجد ربط في الاطار العملي بل لم أجد تصديق ما ليس له برهان. ولا قيمة قانونية ولا اثار يمكن ان تترتب عليه علي (علي كرتي) ولكن يبدو ان القرار للترضية أسهمت فيه مواقف خارجية منها بعض الدول الصديقة لامريكا من دول الخليج ولذلك صدر القرار بهذا الشكل المعيب لارضاءها ولكن كالعادة هذه المرة ايضا جاء علي حساب مصالح الولايات المتحدة الامريكية بأن يصدر مثل هذا القرار وسط ركام الحرب كتبرير للموقف المتشدد تجاه الاسلاميين والمحير أكثر هذه المرة كان من نصيب الاسلاميين المعتدلين الذين اسهموا في استعدال العلاقات السودانية الأمريكية خلال السنوات الأخيرة من حكم الانقاذ وعلي كرتي واحد من عرابي المسارات الخمسة بين الخرطوم وواشنطن…

اتخاذ مثل هذه العقوبات ، لن يسهم في ايقاف الحرب فهوة يدفع لأجل ان لا تضع الحرب أوارها بل تزيد تأجيج نيرانها ، وهو الهدف الذي ظلت تسعي إليه الدول التي دفعت امريكا علي اتخاذ هذا القرار الصادر عن «أوفاك» وحلفاؤهم من قوي الحرية والتغيير المجلس المركزي وهي القوي الداخلية التي اسهمت هي الاخري في صدور هذا القرار الذي قال إن كرتي «قاد الجهود الرامية لعرقلة تقدم السودان نحو التحول الديمقراطي الكامل، بما في ذلك تقويض الحكومة الانتقالية السابقة التي يقودها المدنيون وعملية الاتفاق الإطاري، الأمر الذي أسهم في اندلاع القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات مليشيا (الدعم السريع) في 15 أبريل 2023. ويعمل هو وغيره من الإسلاميين السودانيين المتشددين على عرقلة الجهود المبذولة للتوصل إلى وقف إطلاق النار لإنهاء الحرب الحالية بين القوات المسلحة السودانية وقوات (الدعم السريع) ومعارضة جهود المدنيين السودانيين المبذولة لاستعادة التحول الديمقراطي في السودان»…

هذه اللغة هي لغة المجلس المركزي لقوي الحرية والتغيير وهي التي عملت علي صياغة الرواية الاولي لهذا القرار وأستكتبت كادرها لتشكيل قناعات الرأي العام وقيادة الذهنية العامة لقبول القرار الامريكي، ثم ألحقت بذلك رواية أخري تتعلق بإجتماع (عبد الفتاح البرهان) والاسلاميين برئاسة (علي كرتي) في بورتسودان وقد نفاها مجلس السيادة في حينها، كل ذلك لن يدفع بالأزمة السياسية بالسودان إلا لمزيد من الانقسام والاستقطاب الشعبي واعتقد ان مواقف الحركة الاسلامية الأخيرة بعد اندلاع الحرب وجدت كسبا شعبيا اضافيا عموديا وأفقيا لأن الشعب يدرك حقيقة من اشعل الحرب التي إنقسمت حولها القوي السياسية والمجتمعية ما بين مؤيد للمليشيا بدرجات خطاب ومبررات مختلفة ومعارض للمليشيا ومنحاز للقوات المسلحة بمنطق (جيش واحد، شعب واحد)، فشل خطاب الحرب رغم ثقل الغطاء الاقليمي له في بدايات الحرب ، ذلك لأن القوي السياسية التي تساند التمرد لم تتمكن من بلورة خطاب سياسي موحد ومقنع للشعب السوداني ، لم يقنع خطاب محاربة دولة 1956م وإستجلاب الديمقراطية عبر فوهة البندقية المواطن السوداني ولم يتمكن من مساومة الشعب وإقناعه بالتضحية بماله وعرضه وكل مدخراته من أجل إسناد خطاب الحرب والخراب .

الجبهة الوطنية التوافقية وحدها هي التي ستمنح (علي كرتي) والوطنيين حق النقد القانوني والسياسي ضد قرار وزارة الخزانة الأمريكية وستبطل مفعوله داخل السلطة والتيارات الوطنية السياسية ومؤسسات الدولة كافة ودفعها الي الاستقواء علي القرار وتعطيله خاصة داخل المؤسسات العسكرية التي قصد من توقيت إصدار القرار تخويفها من (كرتي) ومن الاسلاميين ودفعها نحو المعارضة التي سبق للجيش وأن جربها ، ولذلك مثل هذه القرارات ستقوي الصلابة الشعبوية ودفعها لتأييد توجهات التيار الاسلامي الوطني العريض المتسامح وستحمل هذه الطبقة الشعبية والتيار الوطني العريض كل القوي والطبقة السياسية المؤيدة للحرب المسؤولية الاخلاقيه والسياسية والدستورية والقانونية في موالاة إدارة الحرب وكل من كان شريكا فيها وقدم الغطاء للعملية السياسية التي اشعلت حريق الخرطوم (الاتفاق الاطاري) ومحاسبته علي الدمار ونهب المال العام والخاص ليست عبر صناديق الاقتراع بل عبر القضاء المستقل.

إن الطبقة السياسية التي صعدت الي السلطة بعد 11 ابريل 2019م لا تسقط بالضرية القاضية (حرب 15 ابريل) وإن تراجعت فهي ستظل تقاتل من اجل المحافظة على مكاسبها التي تحصلت عليها بتمكين من حلفاءهم في قيادة الدعم السريع خصوصا انها قوي سياسية من دون قواعد شعبية جماهيرية مثل المؤتمر السوداني والتجمع الاتحادي والتيارات العروبية الصغيرة بالاضافة الي بعض فتات التنظيمات الثورية والحركات المتمردة (عرمان ، حجر ، والهادي إدريس واخرين) أو مجموعات طائيفية جاء أغلبها الي السلطة بعد تجريف قاعدته السياسية والدينية الصلبة خلال الخمسة وثلاثين عاما الماضية مثل حزب الامة القومي ومجموعة الاتحادي الأصل برئاسة الحسن الميرغني وغيرهم…

من زاوية التحليل أن القرار الأمريكي الأخير ضد الأمين العام للحركة الاسلامية (علي كرتي) أنتجته مخاوف داخلية خاصة بقوي سياسية ودويلات إقليمية عربية أكثر منها مخاوف خارجية ، أقول ذلك لأن الولايات المتحدة الأمريكية دولة مؤسسات وأن مؤسساتها تدرك قيمة مجموعة الاسلاميين الحاليون بالسودان وتدرك قيمة ما قدموه من تنسيق وتعاون صادق مع المؤسسات الأمريكية وبالتالي ليس من مصلحة واشنطن صناعة عداء جديد بعد التصالح معهم خصوصا بعد ذلك التعاون المثمر ، يبقي علي الإدارة الأمريكية الانتباه وعدم الانجرار وراء مخاوف القوى السياسية السودانية الصغيرة التي بدأت تنظر لما وراء انتهاء الحرب والانتخابات النيابية التي إذا جرت ستعيد فرز (الكيمان) بين القوى السياسية ومن الواقع أن فرص الإسلاميين أكبر في أي معادلة قادمة مختلفة عن تلك التي كانت قبل ثورة 2019م المركبة التي أطاحت بنظام الإنقاذ ، كتلة الإسلاميين حاليا تبدو الوحيدة الأكثر تنظيما وتماسكا ولديها القدرة علي تحقيق أغلبية دستورية وتشكيل تحالفات وفقا للانقسامات الظاهرة الحالية واستحالة فرض أي تسوية خارجية علي السودانيين بعد الحرب ، والجميع يعلم أن محاولة فرض التسوية الخارجية هو ما كان يراهن عليه (القحاتة) وهو ما أدى لكل هذا الفراغ السياسي والدستوري والأزمة الراهنة بالبلاد…

إن أزمة النخب السودانية واستقواءها بمثل هذه القرارات الأمريكية الغريبة وحالة الارتباك أخشى أن يمس طرف مؤسسات الدولة الدستورية وبشكل أوضح يمس القوات المسلحة في محاولات لترهيب قيادتها وفرض مجموعة سياسية عليها في مخالفة لإرادة الشعب وهم في الأصل خصوم للجيش وقيادته فإذا حدث ذلك لا قدر الله فستكون القشة التي قصمت ظهر البعير ، عندها فلتستعد قيادة الجيش لمنحي آخر للازمة السودانية بل مواجهة انتفاضة شعبية جديدة لإعادة الاعتبار لمؤسسات الدولة الوطنية والمحافظة على سيادتها…

قيادة الجيش لديها فرصة وربما الأخيرة للتموضع الصحيح بعيدا عن القوى السياسية الفاشلة التي واقعها الذاتي الحالي يتطلب الإصلاح لجهة أنها كانت أداة قامت بدور غير وطني يوما ما وهي تحتاج إلى معالجة ومحاسبة حقيقية وليست على طريقة النائب العام الحالية ، هذه القوى التي أشعلت الحرب هي المهدد للتعايش السياسي والشعبي مستقبلا بما يستوجب المواجهة القانونية معها مهما كلفت دون الالتفات لمحاولات الالتفاف الخارجي الذي يهدف إعادة إنتاجها وبناءها من جديد ، ولذلك أي تقارب جديد بين قيادة الجيش والقوى السياسية التي حرضت ودفعت قيادة الدعم السريع للتمرد على القوات المسلحة فهي خطوة كمان يحفر قبره بيده…

Exit mobile version