قبل أشهر قليلة وصلت إلى القاهرة، في محطة جديدة من محطات النزوح والترحال القسري الذي فُرض علينا منذ اندلاع الحرب، نزوح لا نملك حياله إلا أن نلوك الصبر ونحاول التماسك وسط واقع أقسى من الاحتمال.
قدمت من بورتسودان الي القاهره لظروف مرضيه خاصة بوالدي و المرض سلطان ، وكنت اراقب عن قرب الزخم الإعلامي هناك، رغم ما شابه من علل قاتلة، في مقدمتها سطوة اللوبيات، والشِّلليات، وتغليب المصالح الخاصة على القضايا العامة. ومع ذلك، قلت حينها: لعل القاهرة تكون أفضل
لكن الصدمة كانت أقسى.
دخلت القاهرة، عاصمة الإعلام العربي وأحد أكبر مراكز الإشعاع الإعلامي في المنطقة، وبدأت نشاطي الإعلامي، لأصطدم بإحباطٍ أشد مرارة. تلك الأسماء الرنانة التي طالما استوقفتني من بعيد، وجدتها هنا أكثر انغماساً في المصالح الضيقة، حتى بات الخاص مقدّماً على القيم الوطنية، وعلى مصالح البلاد نفسها.
كان يمكن لوجود هذا العدد الكبير من الإعلاميين السودانيين في القاهرة، بما فيهم الأسماء اللامعة، أن يشكّل قوة ناعمة هائلة تخدم قضايا السودان، وتخاطب الرأي العام المصري والعربي والدولي. لكن المؤلم أن الغالبية العظمى منكفئة على ذاتها، مستعدة لخوض حروب صغيرة دفاعاً عن مصالح شخصية، ولو على حساب زملائها والمؤسسات العامة التي تنتمي إليها.
لم أجد – إلا نادراً – إعلامياً واحداً نجح في مدّ جسور حقيقية مع المنابر العربية أو الأجنبية المتاحة في مصر، أو حاول بجدية مخاطبة الرأي العام خارج الدائرة السودانية المغلقة.
إعلاميون لا يجيدون سوى التقاط “السيلفي”، حتى في بيوت العزاء، بابتسامات صفراء باردة، في مشهد عبثي مهين. صور جماعية تتكرر في كل مناسبه ، بلا رسالة، بلا موقف، بلا معني.
وحتى عندما تُنظَّم فعالية أو مناسبة عامة من الجانب المصري ويتم دعوتهم لها، يكتفون بالجلوس في الصفوف الخلفية، والتقاط الصور في الردهات، ثم الانصراف.
لم يتحدوا يوماً ليعكسوا وجه السودان الجريح، ولم يسعوا لتجاوز خلافاتهم العقيمة، ولم يحرصوا حتى على تطوير أدواتهم في ظل الطفرة التكنولوجية الهائلة في الإعلام، وهي متاحة أمامهم هنا في مصر.
إن معالجة هذا الوضع الشائه تحتاج إلى وقفة ضمير حقيقية. نحتاج إلى ورش عمل، وعصف ذهني جاد، وسؤال واحد واضح: كيف نخدم السودان؟ وكيف نكون جنوداً حقيقيين في معركة الكرامة بأقلامنا وأصواتنا؟
أمس، خرج ملايين السودانيين ليؤكدوا أنهم في خندق واحد مع جيشهم ضد هذا العدوان. وكان الأجدر بالإعلام الوطني أن يكون في مقدمة الصفوف، لا في هوامش الصورة.
وهنا، تقع مسؤولية كبيرة على الملحقية الثقافية بسفارة السودان في القاهرة، وغيرها من الملحقيات في العواصم الأخرى: أن تخرج من خلف المكاتب، وأن تحشد الإعلاميين، وأن توحدهم حول قضية واحدة.
فالإعلاميون – إن صدقت النوايا – جنود في معركة وطن…
والسودان اليوم لا يحتمل هذا القدر من التخاذل.
