…
كيف يمكن أن تكون مشاركة رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (٧٨) بنيويورك وخطابه العميق واللقاءات التي تمت علي هامش الجمعية ومحورها الأوضاع بالسودان، كيف يمكن أن يكون كل ذلك محرك موجب لعلاقات السودان، سيما بعد الحرب التي دخلت شهرها السادس…؟
حتى وقت قريب، كنا نعتقد أن علاقة الخرطوم وواشنطن على حافة الانهيار، سيما بعد الحديث المتكرر لبعض القيادات الامريكية عن السودان كدولة منبوذة بحسب زعمهم وتقارير المعارضة السياسية، لكن الجميع شاهد مصافحة المسؤولة الأمريكية عن ملف افريقيا (مول في) وقبضة يدها القوية للبرهان وهي تتحدث معه طويلا، معلوما ليس سهلا علي مسؤول امريكي أن يكون بهذه المرونة مع مسؤول سوداني خاصة بعد التراشق اللفظي بين البلدين الذي إستمر حينا من الدهر، إن القاسم المشترك في كل هذا النجاح هو المجهود الدبلوماسي وجهاز الأمن والمخابرات العامة والقوات المسلحة الذي ظل متصلا موصولا منذ العشريتين الأخيرتين لنظام الإنقاذ حتي مرحلة (على الصادق + أحمد إبراهيم مفضل) وهذا يدل بوضوح على أن الاختراقات الكبيرة التي تمت قامت بها هذه الاجهزة والمؤسسات السودانية لمحاصرة وتضييق نطاق الصراعات وتصفير العداد (سودان بلا أعداء) إلي المرحلة الحالية وتغيير معادلة حرب فزع مليشيا التمرد وداعميهم في حرب خراب الخرطوم ودمار السودان…
إن سفر (البرهان) إلى الولايات المتحدة الأمريكية لحضور جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة ليس أمرا ميسورا وليس مجرد مشاركة في فعالية تقليدية وإنما قيمته في المكتسبات التي تحققت على كافة الأصعدة والمستويات واللقاءات التي أجراها البرهان مع عدد من الرؤساء ورؤساء البعثات والمسؤولين، إجتماع مجموعة الرباعية (امريكا، السعودية، بريطانيا، الامارات) وإجتماع وزراء خارجية دول الجوار السوداني، هذا جهد بإمكانه خفض إنتاج الخطاب العدائي والتهديد للسودان بعد تقييم العلاقات ومسار التحولات التي حدثت في خطاب السودان وأجندة معاملاته مع المجتمع الدولي…
الآن نستطيع أن نقول السودان قد اندمج في الأسرة الدولية وصار حليف إستراتيجي لمعظم دول العالم المؤثرة وكل ما يقال عنه أصبحت أخبارا قديمة بحسابات الراهن، وأن علاقات الخرطوم وواشنطن أخذت استدارة كاملة، وعادت ربما إلى مستوى أفضل من العلاقة مع بعض ظولةأصدقاء أمريكا التي توصف بالذهبية، وحرص السودان علي تنظيف علاقاته مع واشنطن ذلك لأن واشنطن هي اليوم واحدة من المعامل الرئيسية والفواعل المؤثرة في المشهد الدولي .
البرهان في خطاب قدم تنويرا شاملا بالأحداث الداخلية على خلفية الحرب المفروضة على السودان وجيشه والإفرازات التي نجمت عنها من قتل، نهب وتهجير قسري، ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، البرهان أكد على ضرورة وحدة السودان الأرض والوجدان بعد ما حاولت المليشيا المتمردة تغيير هويته، البرهان أكد للعالم أنه برغم كل التحديات التي شابت هذه الحرب وقف السودانيين خلف جيشهم وأجهزتهم الأمنية ، بعد كل هذه الرسائل التي أودعها البرهان علي بريد الجميع والتفاعل الكبير الذي وجده خطابه أتوقع كصحفي أن نسمع عن اتفاقية دفاعية سودانية أميركية على غرار الاتفاقية مع كوريا الجنوبية واليابان، وأن تصافح رئيس مجلس السيادة والمسؤولة الأمريكية المؤثرة (مولي في)، كأنه الإعلان عن الممر الجديد لعلاقات الخرطوم، واشنطن والذي يقول الخبراء إنه قد يكون أكبر مشاريع هذا القرن.
ولكن السؤال: كيف تغيرت معادلة العلاقة بين الخرطوم وواشنطن_؟ وما الدوافع خلف ذلك_؟
الإجابة لهذا السؤال: لا بد من شرح لهذا التغير، حيث إن العالم يعاني نضوب الموارد وتغير مناخ مخيف والسودان بات وحده أرض الفرص وهو المخزون الاستراتيجي للموارد وهو أهم دعامات الاقتصاد الدولي، وفي مفهوم العلوم السياسية إن الشيء الوحيد الذي لا يتغير في السياسة هو التغير ذاته، أما ما دونه فكل شيء متحرك وقابل أن يتغير، وكل مسؤول سوداني أو أمريكي يريد أن يخدم مصالح أمته عليه أن ينظر من زاوية المصالح المشتركة كما تقول استراتيجية علم العلاقات الدولية…
الخلافات السابقة بين السودان وبعض دول العالم على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم تحولها إلى حديث المجالس ووسائل الإعلام ودخولها أروقة المنظمات الإقليمية والدولية بيد أنها ليست خلافات دولية عميقة يصعب تجاوزها ، بل خلاف على المصالح فقط ومتى ما توفرت أرضية لتبادل المصالح حتما ستتغير المعادلة ويصبح السودان صديق لمن كان خصمه بالأمس. وهكذا يفعل الساسة ورجال الدولة، حيث يملكون مهارة انتزاع ذواتهم ومشاعرهم من الخلافات، ويتصافحون حتى بعد الحروب والاشتباكات وكأن شيئا لم يكن، لأنهم يدركون أنه لا يوجد شيء شخصي في القضايا العامة، ولكن هذا ما تفرضه عليهم أدوارهم كقادة…
المؤسف أن الاتحاد الافريقي وبعض المنظمات الإقليمية لم تستوعب ما يجري بالسودان ولا التحولات وتغير المعادلة الدولية، عليه هذه المنظمات أن تدرك الراهن وهي بالطبع تابع دولي، وبالطبع هناك سبب واقعي آخر أفضى إلى هذا الاعتدال في علاقات السودان الدولية بالإضافة الي غضب الإدارة الأمريكية من قيادات مليشيا التمرد وتحالفاتها مع مجموعة (فاغنر الروسية)، وهو المخاوف الأميركية من أن يذهب السودان أكثر إلى الصين أو روسيا ما يزيد نفوذ بكين في المنطقة، وتخسر واشنطن واحدا من أهم دول المنطقة وحلفائها المستقبليين…
وهكذا رأينا لغة الإدارة الامريكية القاسية الغاضبة تجاه السودان تتراجع حتى عادت إلى اللغة الدبلوماسية ومجاملاتها المعتادة بل الي مغازلات بعد صمت الأجنحة المتشددة ومجموعات الضغط الأمريكية الكنسية والصليبية المعروفة بعدائها للسودان، وفي ظل التغييرات الجديدة اتوقع أن يتحول صمت هذه المجموعات والمنظمات الي دعم ومناصرة للسودان بقيادة (البرهان)، وإذا عدنا بالذاكرة إلي الخلف نخص مجموعات الضغط الحقوقية والإنسانية التي استخدمت من قبل ضد السودان وفي تصعيد قضية دارفور وحرب الجنوب، فإذا تم ذلك حتما أن السودان سيسجل لنفسه مكاسب إضافية ويخفف من ضغط خصومه عليه، ويذهب أعمق في خط سياسي أكثر واقعية وموضوعية…
وإذا فكرنا بطريقة إدارة (بايدن) في السياسة الخارجية وطريقة تفكيره، فإنه ربما من آخر جيل الساسة الأميركيين المؤمنين بالنظام الليبرالي أو العالم الذي صممته أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، ولهذا يدعم بلا هوادة أو تردد الأوكرانيين ضد الروس في حربهم، لأنه يعتقد أن هزيمتهم تعني انهيار النظام العالمي الذي يؤمن به ويدافع عنه ويعد أحد مبادئه السياسية… والسودان بقعة تكتظ حولها الدول الافريقية الفاشلة (المقيودة) وحولها أنظمة سياسية بعضها من دون هويات واضحة الي جانب الجماعات والمليشيات المسلحة المتطرفة فلابد من إحتواء السودان ووضعه تحت (الأبط) حتي لا يفلت سيما وهو على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة..