الخرطوم الحاكم نيوز
قد يبدو العنوان غريبا، ومثيرا للدهشة، لا سيما عندما يعلم الناس أني أقصد الزعيمين الراحلين الشريف زين العابدين الهندي، والدكتور حسن عبد الله الترابي، فكيف يشاركان في حوار الثلاثية المباشر الذي من المفروض أن ينطلق بعد ساعات، ومعلوم أن الرجلين – الهندي والترابي – في رحاب الله تعالي نسأل الله لهما المغفرة والرحمة والقبول.
وكما يعلم كثيرون أني كنت قريبا جدا منهما، وقد بدت صلتي المباشرة بهما في وقت واحد، في سبعينيات القرن الماضي، وكنت وقتها أدرس الجامعة في مصر، وجمعتني بالشيخ الترابي الحركة الإسلامية، حيث كنت من نشطاء الإتجاه الإسلامي الفاعلين، وشهدت فترة دراستنا في مصر نهضة الحركة الطلابية السودانية في مصر، وبعد التخرج تفرغت بتوصية من الشيخ الترابي للعمل في أمانة الطلاب الإتحادية بالحركة الإسلامية، وعهد إلى تأسيس مكتب المناشط، ثم جمعتني بالشيخ الراحل محطات كثيرة، منها دائرة العلاقات الخارجية في المؤتمر الوطني عندما كان امينا عاما له، ثم صرت بعد ذلك مسؤولا عن إدارة الإعلام في المؤتمر الوطني، ولما حدثت مفاصلة رمضان المشهورة وقفت معه، وتوليت إدارة الإعلام أيضا في المؤتمر الشعبي إلى أن جمدت نشاطي بعد مذكرة التفاهم بين الشعبي والحركة الشعبية، إلا أن صلتي به لم تجمد ولم تفتر إلى أن لاقي ربه راضيا مرضيا. أما الشريف زين العابدين الهندي فتعرفت عليه في ذات الفترة التي عرفت فيها الشيخ الترابي، وكان ذلك عن طريق أستاذنا وحبيبنا وابن عمنا الراحل الأستاذ الكبير السر أحمد قدور، وكان أكثر ما جمع بيننا التراث والأدب، والانصارية التي ورثها الشريف زين العابدين عن والده الشريف يوسف الشريف محمد الأمين الهندي، وجمعتني معه محبته لجدنا الأمير النورعنقرة، وكما هو معلوم فإن الشريف في رائعته الخالدة “أوبريت سودانية” ذكر النور عنقرة بعد المهدي والخليفة مباشرة، وخصه وحده ببيتين في الأوبريت،
حباب المهدي كبر فيك حرارة ودين
حباب أسد العرين عبد الله ود تورشين
حباب النور عقيد الخيل عقود الشين
عنقرة المعزة الأصلو ما بتلين.
القاسم المشترك بين الزعيمين – الهندي والترابي – وهو ذات ما يجمعني معهما، أنهما الأكثر حرصا وسعيا من بين زعماء السياسة في السودان كلهم علي جمع الصف الوطني، ودعوني أبدا من حيث ما كنت شاهدا عليه، وكثيرون من شهوده أحياء، ووثائق أكثره لم يجف مداد بعضها بعد.
فعندما ظهرت نتيجة انتخابات عام ١٩٨٦م ولم يحرز أي من الأحزاب الوطنية الكبيرة – الأمة والإتحادي الديمقراطي، والجبهة الإسلامية القومية – دوائر تمكنه من تشكيل حكومة منفردا، قاد الشريف زين العابدين وفدا من قيادات حزبه الذي كان يتولي أمانته العامة، للاجتماع مع وفد من الجبهة الإسلامية بقيادة امينها العام الدكتور حسن الترابي، وتعاهد الوفدان علي ألا يدخل حزب منفردا في حكومة ائتلافية مع حزب الأمة، ويصر كل منهما علي تشكيل حكومة قومية تضم ثلاثتهم مع الأحزاب الجنوبية تكون نواة لإحياء الجبهة الوطنية السودانية التي كانت قد تشكلت لمناهضة إنقلاب مايو الشيوعي عام ١٩٦٩م، وذهب الوفدان للسيد محمد عثمان الميرغني، الذي بارك الإتفاق، ولكن في الساعات الأولى من الصباح اتصل مولانا السيد محمد عثمان بالشريف زين العابدين وأخبره أنه قد اتفق مع السيد الصادق المهدي علي تشكيل حكومة ائتلافية بينهم وحزب الأمة، وكانت هذه هي بداية الخلاف بين الشريف ومولانا.
ولما قرر الشريف زين العابدين تفجير مبادرته للحوار الشعبي الشامل، كان حريصا جدا علي ضمان موقف الإسلاميين، ومساندتهم للمبادرة، لذلك عندما أجريت معه حوار المبادرة الصحفي، اسمعته أولا للدكتور عبد الله سليمان العوض القيادي الإسلامي المؤسس المتفرد، وكان دكتور عبد الله يرحمه الله يعمل وقتها في مكتب الصحة العالمية في الإسكندرية، ثم زرناه في الإسكندرية مع الأخ الشريف صديق الهندي، وصديق أصلا خلفيته إسلامية، وهو صديق قديم ثم زار دكتور عبد الله الشريف في القاهرة، وعندما قرر الشريف إرسال وفد مقدمة للمبادرة جاء فيه الدكتور أحمد بلال عثمان، والبروفيسور علي عثمان محمد صالح، وكان قد بعثني قبلهما بخطاب للرئيس السابق المشير عمر البشير يحدثه عن وفد المبادرة، وكانت وصية الشريف الأساسية أن يلتقي الوفد الشيوخ والفاعلين في الحركة الإسلامية، ورتبنا لهم بعد وصولهم مباشرة دعوة عشاء في بيت البروفيسور إبراهيم أحمد عمر، حضرها من الإسلاميين الشيخ محمد محمد صادق الكاروري، والدكتور عثمان عبد الوهاب، والشيخ خليفة الشيخ مكاوي، والشيخ عبد الله بدري، والدكتور أحمد إبراهيم الترابي، والبروفيسور حسن مكي محمد أحمد، والشهيد محمد طه محمد أحمد، والشهيد فتحي خليل، والأستاذ محجوب عروة، وحضر مع وفد المبادرة راعيها القطب الإتحادي المرحوم الحاج التجاني محمد إبراهيم.
ولما عاد الشريف زين العابدين الهندي للسودان بالمبادرة، كان عزمه أن يشكل حزبه وحزب المؤتمر الوطني كيانا واحدا يكون نواة لإعادة بناء الجبهة الوطنية، ولقد حضرت محفلين كبيرين نادي فيهما الشريف بذلك، المرة الأولي في مؤتمر حزبهم العام في الساحة الخضراء، والمرة الثانية كانت في جنينة الشريف بحلة كوكو يوم الإحتفال الذي أقاموه بمناسبة شفاء الأستاذ علي عثمان محمد طه، وفي المرتين كان البشير حاضرا، وكان كل قيادات الحزب الإتحادي الديمقراطي وحزب المؤتمر الوطني حضورا، واقترح الشريف أن يسمي الحزب الجديد بعد الاندماج “الحزب الوطني الديمقراطي” ولكن لم يعره أحد من الحزبين اهتماما، ذلك أن الحكومة والمؤتمر الوطني كانت تريد للحزب الإتحادي أن يظل هكذا زينة فقط، يقولون به أنه توجد تعددية سياسية حزبية في السودان.
وأذكر عندما حدثت المفاصلة، وتم اعتقال الدكتور الترابي، اتصل بي الشريف زين العابدين وطلب مني ترتيب زيارة له لبيت الشيخ، ومقابلة زوجته وأولاده، فاتصلت بهم واتفقت أن نفطر معهم في المنزل اليوم التالي مباشرة، فأخذت الشريف من بيت السيد صلاح مكي في الخرطوم ٣، وذهبنا إلى بيت الشيخ الترابي في المنشية، فاستقبلتنا زوجته السيدة وصال المهدي، وابناؤها صديق وعصام، ومحمد عمر في الصالون الخاص بالدكتور الترابي، وتناولنا الإفطار جميعا في مائدة واحد، وحملهم الشريف رسالته للشيخ، وكانت “قولوا ليه الجماعة الحاكمين ديل نحن ما بنعرفهم، نحن بنعرفكم انتوا، وجينا عشانكم انتوا، فورينا نعمل شنو ونحن جاهزين” وفي أول مقابلة لي مع الدكتور الترابي في مستشفي “ساهرون” بعد فترة ليست طويلة، وبطلب منه، طلب منى توصيل شكره للسيد الشريف وقال لي “قول ليه حسن قال ليك خليك، وحافظ علي شراكتك معاهم”
ولما أصاب الشريف زين العابدين اليأس من زملائه في الحزب، وشركائه في الحكومة كتب قصيدته المشهورة، “إيماءة قبل الرحيل” وكانت دعاء وسؤالا لله تعالي أن ياخذه إليه وينجه من هؤلاء الذين لم يجد فيهم خيرا، ولم يعش بعدها غير أيام محدودة، ومن ابياتها:
اي المعدن صيغ منها الناس … طين كلهم
ما قلت شيئا عنهم .. ما لمتهم
لكن تبسمت علي شفاهي منهم
خجلت من نفسي ،، وليس عليهم
أو لم أكن ذاك الغريب يطوف فيما بينهم
أو لم أكن ذاك الوحيد بلا خليل عندهم
يا وحدة الله .. أشتاق كي ألقاك.. بعيدا عنهم
خذني إليك.. فقد كرهت العيش فيما بينهم
فليتني ما اخلصت اذا درستهم
ثلاثون عاما بالروائع والبدائع رفدتهم
وعشرا حسوما تمكن فيها السناير.. وما طاوعتهم
عصي انا.. قوي انا.. فهزمتهم
ربي خذني إليك.. فقد مللت العيش بينهم.
الدكتور الترابي لما رأي الذين قدمهم للحكم يتشبثون به، ولا يريدون التخلي عنه، قاد معركة من خلال البرلمان لتمرير تعديل دستوري يتيح إختيار الولاة مباشرة من الشعب عبر انتخابات حرة نزيهة، ولما رفضوا ذلك، أصر الدكتور الترابي علي موقفه، فلم يجدوا غير إستخدام الطوارئ، وحل البرلمان، وانفصل عنهم، وكون المؤتمر الشعبي، وكانت هذه المفاصلة مدخلا لتوسيع مظلة الحريات.
ولما أقبلت كل القوي والأحزاب السياسية علي الحوار، طرح الدكتور الترابي مشروع المنظومة الخالفة، والمنظومة الخالفة ليست دعوة لوحدة التيارات الإسلامية وحدها، ولكنها دعوة لتلاقي ووحدة كل أهل السودان، وهي ذات ما تدعو له الجبهة الوطنية التي مات دونها الشريف زين العابدين الهندي، ولا أجد أجندة، ولا هدفا للحوار المرتفب يمكن أن يلبي أشواق الوطنيين السودانيين، غير جبهة الشريف زين العابدين الهندي، ومنظومة الشيخ الدكتور حسن عبد الله الترابي الخالفة، فهل تحضران وتشاركان في الحوار المباشر، ونعبر وننتصر بإذن الله تعالي القوي النصير؟