
بينما تتكثف الدعوات الإقليمية والدولية لفرض هدنة إنسانية في السودان، تتكشّف على الأرض وقائع تُفرغ هذه الدعوات من مضمونها قبل أن ترى النور. والقرائن التي تجسدها الوقائع تطرح سؤالًا جوهريًا حول جدوى أي هدنة لا تحمي المدنيين ولا تؤمّن العمل الإنساني، وتكشف أن المشكلة ليست في غياب المبادرات، بل في غياب الضمانات. وكنماذج فقط من بين هكذا أفعال:
في مدينة زالنجي بولاية وسط دارفور، كشفت مصادر متطابقة عن إيقاف منظمات إنسانية توزيع المساعدات النقدية للنازحين، بعد تدخل ضباط من الدعم السريع وفرضهم كشوفات جديدة لإعادة توجيه الدعم لصالح أسرهم ومعارفهم، مرفقين ذلك بتهديد مباشر للعاملين الإنسانيين. واقعة تعكس بوضوح كيف تُفرغ المساعدات من مضمونها الإنساني وتُحوَّل إلى وسيلة نفوذ وسيطرة.
ولا يتوقف الأمر عند النهب فقط، بل يتعداه إلى استهداف مباشر للعمل الإنساني. وكلنا شهد بحادثة جنوب كردفان، وكيف شنّت المليشيا هجومًا بالمسيّرات على مدينة كادوقلي المحاصرة، مستهدفة مقرًا للأمم المتحدة، ما أسفر عن مقتل ستة جنود من قوات حفظ السلام البنغلاديشية، ومثل هذه التعديات القذرة دفعت منظمات إنسانية ووكالات أممية إلى إجلاء موظفيها، بالتزامن مع موجات نزوح السكان رغم ان الكثير منهم لا يجد لذلك سبيلا. رسالة لا تحتمل التأويل: لا أمان حتى للعمل الإنساني.
وقبل أيام، أقدمت المليشيا على نهب شاحنات محمّلة بمحصول الفول كانت في طريقها إلى أسواق دارفور، واحتجزتها مع شاحنات أخرى منهوبة، في سياق متصل مع سياسة تجويع ممنهجة. كما وثّقت تقارير سابقة قصف المساعدات الإنسانية بالمسيّرات، في محاولة واضحة لمنع وصولها للمواطنين الواقعين تحت سيطرتها، وتجويعهم لإخضاعهم.
في هذا المشهد القاتم، أعلن الاتحاد الأوروبي إطلاق جسر جوي طارئ لإيصال مساعدات إلى دارفور، مع رحلات تمتد حتى يناير المقبل. ورغم أهمية الخطوة من حيث المبدأ، إلا أن المخاوف تظل مشروعة: كيف يمكن ضمان وصول هذه المساعدات إلى مستحقيها؟ وما الآليات التي تحول دون نهبها أو توظيفها لصالح المليشيا؟ وهل تتحول، كما حدث مرارًا، إلى مورد جديد يغذي آلة الحرب بدل أن ينقذ المدنيين؟
هنا يبرز السؤال الجوهري: ما جدوى الهدنة التي تنادي بها «الرباعية» وغيرها من الأطراف الدولية، إذا كانت المساعدات تصل – برًا أو جوًا – ولا ينتفع بها المواطن، بل تُنهب أو تُستخدم كورقة ضغط وتجويع؟ أي هدنة لا تقترن بضمانات حقيقية لحماية المدنيين، وتأمين العمل الإنساني، ومحاسبة من ينهب أو يستهدف المساعدات، لن تكون سوى هدنة شكلية تمنح الجناة وقتًا إضافيًا لإعادة التموضع.
إن السلام لا يُقاس بعدد البيانات ولا بالجسور الجوية وحدها، بل بقدرة المواطن على الحصول على غذائه ودوائه دون خوف، وفوق ذلك أمانه. وفي ظل نهب المليشيا للمساعدات وتجويعها للمدنيين، تبقى الهدنة، بلا آليات ردع ومساءلة، سؤالًا مفتوحًا أكثر منها حلًا حقيقيًا.



