أخر الأخبار

جنوب السودان: من حلم الاستقلال إلى كابوس الفوضى

بقلم: د. عبدالناصر سلم حامد
مدير برنامج السودان وشرق إفريقيا – مركز فوكس للأبحاث (السويد)
باحث متخصص في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب

حين أعلن استقلال جنوب السودان في يوليو 2011، وصف الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك بان كي مون الحدث بأنه “لحظة تاريخية وولادة دولة جديدة تحت راية الحرية”. كان الحلم كبيرًا: دولة تنعم بالسلام بعد عقود الحرب. لكن سرعان ما انقلب المشهد، لتغدو البلاد بعد عامين فقط غارقة في حرب أهلية وصراعات لا تنتهي، حتى باتت تُعرف اليوم بأنها واحدة من أكثر الدول هشاشة في العالم.

الصراع بين الرئيس سلفا كير ميارديت وزعيم المعارضة رياك مشار لم يكن مجرد تنافس على السلطة. إنه انعكاس لانقسامات متجذرة في الحركة الشعبية منذ التسعينيات، وحضور طاغٍ للهويات الإثنية. كير يمثل قاعدة الدينكا، ومشار يقود قطاعًا واسعًا من النوير. وعندما انفجر الخلاف في ديسمبر 2013، تحوّل إلى حرب أهلية خلّفت مئات الآلاف من الضحايا، ويُقدَّر عدد الوفيات الزائدة بأكثر من 380 ألف شخص وفق دراسة أصدرتها London School of Hygiene & Tropical Medicine. لقد أثبتت تلك الحرب أن الدولة الوليدة لم تنجح في صهر مواطنيها في هوية وطنية جامعة.

اتفاق نيفاشا عام 2005 كان الخطوة الأولى نحو الاستقلال، لكنه لم يؤسس لآليات حكم متينة. ثم جاء اتفاق السلام المعاد إحياؤه عام 2018، متضمنًا تقاسم السلطة، ودمج القوات، وإصلاح دستوري، وإنشاء محكمة هجينة لجرائم الحرب. لكن معظم هذه البنود لم يُنفذ. تقرير بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (UNMISS) لعام 2023 يؤكد أن “التقدم في تنفيذ الاتفاق لا يزال بطيئًا بشكل مقلق، خاصة في ملف الترتيبات الأمنية والعدالة الانتقالية”. وعندما علّق كير مهام مشار كنائب أول للرئيس، بدا وكأن آخر خيوط التوافق تتفكك.

الاقتصاد يضاعف المأساة. فالنفط يشكل أكثر من 90% من الإيرادات، لكن الإنتاج والصادرات تراجعَا بشكل حاد. ووفق رويترز، كان جنوب السودان يصدر نحو 150 ألف برميل يوميًا عبر خطوط أنابيب تمر بالسودان، قبل أن تتأثر هذه الخطوط بالحرب الدائرة هناك. ومع استمرار الفساد – حيث تشير منظمة الشفافية الدولية إلى أن مليارات الدولارات من عائدات النفط لا تصل إلى الخزينة العامة – ومع تراجع الزراعة بسبب الفيضانات، أصبح معظم السكان يعتمدون على المساعدات الخارجية.

الجانب الإنساني يكشف عمق الأزمة. الأمم المتحدة تحذر من أن أكثر من ثلثي السكان – أي نحو 8 ملايين إنسان – بحاجة إلى مساعدات عاجلة. الفيضانات دمّرت أراضي واسعة وأدت إلى نزوح متكرر، وإن لم تتوفر إحصاءات دقيقة عن المساحات المغمورة. الأطفال هم الأكثر تضررًا؛ فقد أُجبر آلاف منهم على القتال. ففي عام 2015 مثلًا، ساعدت اليونيسف في إطلاق سراح نحو 1,775 طفلًا من الجماعات المسلحة، فيما لا تزال عمليات التجنيد قائمة حتى اليوم. أما العنف الجنسي، فتصفه منظمة العفو الدولية بأنه “ممنهج ويُستخدم كسلاح لإذلال المجتمعات وتفكيكها”. وفي شهادة لنازحة من ولاية الوحدة تقول: “هربنا من القتال مرتين، ومن المياه ثلاث مرات، ولم يبقَ لنا سوى خيمة مهترئة وأطفال جائعون”.

هذا المأزق الداخلي يتشابك مع حسابات إقليمية ودولية. أوغندا دعمت كير عسكريًا منذ 2013 لحماية حدودها ونفوذها. كينيا تستثمر في القطاع المصرفي والتجاري. إثيوبيا تتابع بقلق خوفًا من انتقال عدوى التوترات. السودان يظل الشريان النفطي، ومع حربه الداخلية أصبح الخطر مضاعفًا. أما الصين، فهي المستثمر الأكبر في النفط، وتركّز على استقرار حدّه الأدنى. الولايات المتحدة، رغم أنها رعت الاستقلال، تراجعت حماستها بعد إخفاق الوساطات. وروسيا تحاول النفاذ عبر عقود تسليح وتدريب. هذه التجاذبات تجعل جوبا ساحة نفوذ متقاطعة، أكثر منها عاصمة لدولة سيدة.

التجارب الدولية تقدم دروسًا حاسمة. رواندا تجاوزت الإبادة ببناء هوية وطنية تتجاوز الانقسام الإثني. ليبيريا استعادت عافيتها بعد إصلاح الجيش تحت إشراف الأمم المتحدة. أما الصومال، فقد ظل رهينًا للفوضى لغياب مؤسسات قوية. جنوب السودان يقف اليوم أمام خيار مشابه: إما السير في طريق رواندا وليبيريا، أو السقوط في مستنقع الصومال.

السيناريوهات متعددة. العودة إلى الحرب الأهلية احتمال قائم إذا فشل التوافق السياسي. الاستقرار النسبي ممكن إذا فُرض تنفيذ الاتفاق بصرامة من الإيغاد والاتحاد الإفريقي. التبعية الإقليمية تبدو مرجحة إذا استمر ضعف مؤسسات الدولة. التدويل وارد عبر وصاية أممية جديدة إذا انسدت الآفاق. وهناك خطر التفكك الداخلي، حيث تبدأ بعض الولايات بالانفصال الفعلي عن سلطة جوبا. وكما قال المبعوث الأممي نيكولاس هايسوم مؤخرًا: “جنوب السودان يقف على حافة هاوية جديدة، والانتخابات المقبلة قد تكون طوق نجاة أو شرارة تفجير”.

الوقت ينفد. بعثة الأمم المتحدة حذّرت في تقريرها الأخير من أن “الانتخابات المقررة في 2025 قد تتحول إلى عامل تفجير بدلًا من أن تكون خطوة نحو الاستقرار إذا لم تُستكمل الترتيبات الأمنية والدستورية”. إن الأزمة إذن ليست أزمة انتقال عسير، بل أزمة مشروع وطني يترنح.

خاتمة المشهد تفرض نفسها بقسوة: إذا لم تُبنَ مؤسسات وطنية حقيقية، ولم يُوحّد الجيش، ولم تُطلق مصالحة شاملة تعالج جراح الحرب، فإن الدولة التي وُلدت على وقع الأناشيد قد لا تبقى قائمة خلال العقد القادم. جنوب السودان اليوم لا يواجه مجرد خطر العودة إلى الحرب، بل خطر الزوال ككيان موحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 × أربعة =

زر الذهاب إلى الأعلى