
د. عبد الناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق إفريقيا والسودان في مركز فوكس للدراسات – السويد
باحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب
في قلب الرماد، وبين المدن التي تنزف وتستغيث، يقف السودان على حافة الضياع. تلاشت الدولة، وانقسم المجتمع، وتهاوت مؤسسات كانت إلى وقت قريب رمزاً لوجود الوطن نفسه.
ورغم ذلك، بقيت القوات المسلحة السودانية صامدة، تقاتل على جبهات متعددة دفاعًا عن ما تبقى من هيبة الدولة ووحدة ترابها، محافظة على ما أمكن من تماسك السيادة في وجه التفكك الشامل. لكن الحقيقة أن السلاح وحده لا يكفي، فالمعركة لا تُكسب في الميدان فقط، بل تُحسم في السياسة والشرعية، وفي إعادة بناء الدولة على أسس جديدة من العدالة والوحدة الوطنية.
قيادة من طراز خاص، لا تنتظر الإجماع، بل تصنعه. لا تأتي من المحاصصة، بل من الضرورة التاريخية. وهنا يتقدم اسم الدكتور كامل إدريس، كما يتقدم الأمل حين يضيق الأفق. إن الذين يُنقذون الأوطان في ساعات المحنة ليسوا بالضرورة الأكثر ضجيجًا في المشهد السياسي، بل غالبًا هم أولئك الذين تراكمت لديهم الخبرة والرؤية والنزاهة، وصقلتهم التجارب لا الأضواء. والتاريخ يؤكد أن الأوطان لا تُدار بالشعارات، بل بالعقل والحكمة، لا بالولاءات الضيقة بل بالانحياز للمصلحة العليا.
حين استدعى الملك جورج السادس ونستون تشرشل في مايو 1940، كانت لندن تحت التهديد، والنازيون يجتاحون أوروبا. لم يكن تشرشل محبوبًا من الطبقة السياسية، ولم يأتِ عبر انتخابات عامة، لكنه كان رجل اللحظة – رجل المعركة من أجل البقاء. قال يومها عبارته الشهيرة: “لا أعدكم إلا بالدم والدموع والعرق… لكننا سننتصر.” وبالفعل، انتصر تشرشل، لا لأنه كان الأقوى، بل لأنه كان الأصدق، والأوضح رؤية، والأصلب في وجه الانهيار.
واليوم، يمر السودان بلحظته التشرشلية الخاصة: دولة تتآكل، شعب مشرّد، مؤسسات مدمّرة، وعزلة دولية خانقة. ومن وسط هذا الركام، يبرز سؤال جوهري: من هو الرجل الذي يمكن أن يقود هذه المرحلة المصيرية، بعيدًا عن المحاور، والمليشيات، والفساد السياسي؟
الدكتور كامل إدريس ليس مجرد سياسي، بل رجل دولة حقيقي، نادر في هذا الزمن المضطرب. بروفيسور في القانون، وخبير دولي بارز في حقوق الملكية الفكرية، وقائد سابق لمنظمة عالمية تابعة للأمم المتحدة، يحظى بإجماع دولي واحترام داخلي. شخصية نزيهة، محايدة في النزاع السوداني، وغير منخرطة في تحالفات الحرب أو صفقات المرحلة.
لقد قضى أكثر من عقدين في ساحات القانون الدولي والدبلوماسية متعددة الأطراف، متنقلاً بين جنيف ونيويورك، ومُراكماً شبكة علاقات مع صُنّاع القرار في أوروبا، والولايات المتحدة، وآسيا، والعالم العربي. وهو من القلة القادرين على مخاطبة المجتمع الدولي بلغة يحترمها، وبلهجة تفهمها مراكز القرار العالمية.
في وقت تتصارع فيه الأطراف على مكاسب ضيقة، يُطرح كامل إدريس باعتباره الخيار الاستثنائي لزمن استثنائي: مقبول لدى الشارع الوطني الباحث عن مخرج، متمرس في فن الإدارة والتفاوض، ومؤهل لبناء جبهة مدنية إنقاذية تُطمئن الداخل وتقنع الخارج.
من أخطر ما أفرزته الحرب في السودان هو تفكك المفاهيم: باتت القوة العسكرية مصدرًا للشرعية، بدلًا من التفويض الشعبي أو الكفاءة. لكن الأمم لا تُبنى بمنطق الغلبة، بل بمن يملك القدرة على لمّ الشمل، وتهدئة الغضب، وإعادة الثقة في مشروع الدولة. وهنا يتفوق كامل إدريس على كل الطارئين على المشهد: فهو لم يحمل بندقية، ولم يوقع على محرقة، ولم يتاجر بالشعارات. بل بنى اسمه من خلال خدمة القانون، والدفاع عن حقوق الشعوب، وتعزيز الحوار بين الأمم.
كما كان تشرشل زعيمًا جمعيًا رغم انقسام السياسة البريطانية، فإن كامل إدريس يحمل رمزية وطنية تسمو على الحزبيات، وتستند إلى مسيرة ناصعة وسجل خالٍ من الدماء.
لقد وصفه أحد مديري منظمة اليونسكو بأنه: “من أذكى الشخصيات الدبلوماسية التي التقيتها في إفريقيا، يجمع بين الحكمة والانفتاح والاستقامة.” أما صحيفة Financial Times فقد قالت عنه ذات مرة: “إنه رجل نادر في عالم السياسة، يجيد الإصغاء، ويتحدث بلغة المستقبل.” هذه ليست أوصافًا دعائية، بل إشارات واضحة إلى الإجماع الدولي الذي يمكن أن يستفيد منه السودان لإعادة التواصل مع العالم بعد عزلة خانقة.
في مخيمات النزوح، وفي القرى التي احترقت، وفي أعين الأمهات اللواتي ينتظرن أبناءهن، لا يُطرح اسم كامل إدريس كترف سياسي. بل كأمل. أملٌ في أن يكون هناك من يفكر في الوطن كما يفكر الأب في بيته: برحمة، وبمسؤولية، وبإصرار على الحياة. ولهذا… حين نقول إن السودان بحاجة إلى كامل إدريس، فإننا لا نخاطب الطبقة السياسية فقط، بل نخاطب الشعب الذي ما زال يؤمن أن غدًا أفضل ممكن.
في عالمٍ تتسابق فيه الدول لتأمين مصالحها، فإن السودان لن يجد موطئ قدم إلا إذا قاده من يفهم لغة العالم، ويملك شبكة الثقة التي خسرناها في سنوات العزلة والحرب. وكامل إدريس، بما يملكه من علاقات وشرعية دبلوماسية، قادر على إعادة السودان إلى الطاولة، لا بوصفه عبئًا، بل شريكًا.
ليس أمام السودان وقت طويل قبل أن يتحول إلى دولة فاشلة بالمعنى الكامل للكلمة. ما تبقى من الوطن يتنازع عليه المتحاربون، والمجتمع الدولي يتعامل مع السودان كأرضٍ منكوبة فقدت أهلية الدولة. وفي هذا السياق، لا يمكن الخروج من النفق إلا بقيادة انتقالية ذات رمزية وطنية وقبول شعبي ومؤسسي، تُعيد رسم طريق الدولة من جديد.
إن تعيين الدكتور كامل إدريس ليس منحة سياسية، بل ضرورة وطنية. إنه الخيار العقلاني في لحظة الجنون، والصوت المعتدل في زمن التطرّف، والرمز الجامع في وطنٍ مزّقته الاصطفافات.
الأمم لا تنهض بالهتاف، بل بالقرار. والتاريخ لا يُكتب بالبيانات، بل بالمواقف. ولحظة الإنقاذ الوطني لا تنتظر استفتاءً عاماً، بل تحتاج إلى شجاعة القرار، وأن يقول القادة كلمة واحدة: كفى انهياراً… ولنتقدم مع من يستطيع أن يقودنا إلى برّ الأمان. وكما أنقذ تشرشل بريطانيا من الانهيار، فقد آن للسودان أن يمنح صوته لمن يحمل راية الدولة، لا راية المعسكر.
اسمه: كامل إدريس… رجل اللحظة التي لا تحتمل التأخير.