
إن معركة كرري تعد من اشهر المعارك في القرن العشرين وقد مثلت انتقاما من قبل بريطانيا لجنرالاتها الذين لقوا حتفهم بأسلحة الثورة المهدية فقد فقدت حينها وليام هكس الذي هزمه المهدي في شيكان في 5/11/1983م واللورد ستيوارت وهو اركان حرب الجنرال غردون الذي بعثه على ظهر الباخرة عباس باشا إلى مصر ومعه تقارير مفصلة عن الموقف في السودان، وانعدام فرص النجدة الداخلية بعد ثورة الشيخ العبيد ود بدر والشيخ مضوي عبد الرحمن التي حجزت عن غردون مساعدة قبائل الجموعية والجميعاب والبطاحين والمحس من مديرية الخرطوم ، والمعروف ان هؤلاء يثقون في الشيخ العبيد وإن لم يكونوا أهل عقيدة في طريقته الصوفية أو في الدعوة المهدية، تماماً كما وجدت مبادرته المعروفة باسم نداء السودان من قبول كبير هذه الأيام.
وكان التأثر الاكبر للبريطانيين عن تشارلز غوردون الذي كتبت عنه العديد من المقالات التي تمجد تاريخه في الصين و أُلفت عنه تلك الاغنية الشعبية الرائجة في بريطانيا آنذاك والتي تتحسر على مقتل بطل بريطانيا القومي الجنرال غردون، على يد قوات الثورة المهدية، بكلماتها التي تقول Too late , Too late to save him
وقد كثر حينها الحديث عن الانتقام والثأر من السودان في الصحافة البريطانية لاعتقادهم أن المهدية أصبحت مهدداً لأمن بريطانيا باعتبارها ثورة دينية تؤثر على وادي النيل وشرق البحر الأحمر والسواحل الغربية، وقد كان كتشنر قائد الحملة عقائدي متزمت وعضو رابطة الراية المقدسة والتي تدعو للحفاظ على العقيدة الدينية، كما كان صديقاً للورد ستيوارت الذي قتله فرسان المناصير بقيادة الشيخ سليمان ود نعمان الذي كان قد أرسل إلى محمد الخير في بربر بتأييد المهدية، وكان ستيوارت عندما وصل إلى منطقة السلامات قد اصطدم وابوره ( عباس باشا ) بصخرة فانفجر خزانه وتلف محركه فنزل ستيوارت ومن معه إلى الأرض يحاولون المشي للحصول على جمال يستخدمونها في رحلتهم إلى أسوان، وقد طلب الشيخ سليمان من ستيوارت قضاء ليلته حتى يتم البحث له عن الجمال في الصباح، ولكن سليمان أرسل رجاله ليلاً فقتلوا ستيوارت وكل من معه واستحيوا اثنين من المصريين نطقا بالشهادة واستنجدا بعقيدتهما الاسلامية، وكان كتشنر قد قال حينها إذا اصيب ستيوارت سأقتل بكل شعرة من رأسه رجل، وحتى ينال الجزاء الرباني العادل فإن كتشنر نفسه تقول المصادر التاريخيه أنه لقي حتفه بعد كرري ب 17 عاماً بصورة درامية في العام 1916 حينما غرقت الباخرة التي كانت تقله قبالة شواطئ روسيا الشمالية فلم يُعثر له على جسد حتى الآن، رغم جهود سلاح البحرية البريطانية والتي امتدت لقرابة العام للبحث عن حطام السفينة الغارقة.
اليوم زداد الحال سوءاً عندما مات اولئك الرجال للدرجة التي اصبحت فيها الاستعانة بالأجنبي والتي بلغت ذروتها في تلك المعركة أمراً عادياً، والعمالة بطولة، والخيانة مفخرة ، واجتماع أطراف النزاع للبحث عن حل في منازل السفراء كأنه نزهة على شارع النيل ،والغريب في الموضوع أن وزارة الخارجية حين تتذكر أمر السيادة من حين لآخر تبعث بتعميم للوزارات الأخرى وعبرها للمؤسسات التابعة لها أن مقابلة السفارات يجب أن تتم بإذن رسمي من وزارة الخارجية فيا ترى أولئك الذين اتخذوا من أبواب السفارات مقيلاً ومن مقراتها سكنا ممن أخذوا الأذن؟؟؟
من واقع ما تقدم من مقالات اتضح ان معركة كرري قد كانت إبادة جماعية وجريمة مكتملة الأركان ضد الإنسانية، غير أن الغريب في الأمر أن سياسيينا لم يطالبوا بريطانيا حتى الآن بالاعتذار عن تلك الجرائم الممتدة ناهيك عن المطالبة بالتعويض فيما عدا مطالبة الراحل الأب فيليب عباس غبوش زعيم الحزب القومي السوداني بمحاكمة كل من ارتكب جرماً ضد الوطنيين السودانيين أيام الاستعمار أو من ساهم في نشر تجارة الرقيق. كما ان كل الدول الأوروبية الاستعمارية مطالبة اليوم بالاعتراف بجرمها والاعتذار عن الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية التي ارتكبتها بحق السكان الاصليين في أمريكا وآسيا وأفريقيا.
وعلى ذكر الاستعمار والاعتذار فقد انتظر كثير من الجزائريين إعلان ماكرون في زيارته الى الجزائر في الاسبوع الماضي اعتذاراً صريحاً عن جرائم الاستعمار الفرنسي التي ارتكبت طيلة 132 سنة (1962-1830)، خاصة وأنه السياسي الفرنسي الوحيد الذي وصف الاستعمار بأنه “جريمة ضد الإنسانية” أو على الأقل التعبير عن ندمه، وليس أسفه عن تشكيكه في وجود أمة جزائرية قبل 1830.
لكن ماكرون، الفائز قبل أشهر بولاية رئاسية ثانية وأخيرة، لا يبدو أنه تحرر من قيود اليمين المتطرف، وبدل التوبة والاعتذار فضل رمي الكرة في ملعب المؤرخين، من خلال تشكيل لجنة فرنسية جزائرية مشتركة لدراسة الأرشيف في الفترة الاستعمارية والثورة التحريرية (1962-1954). وسبق لماكرون، أن كلف المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا المولود في الجزائر، بإعداد تقرير حول ملف الذاكرة، ولكن التقرير الذي أعد في يناير الماضي لم يتضمن أي توصية بتقديم اعتذار للجزائر، رغم العديد من النقاط الإيجابية.وتلك اللجنة المشتركة للمؤرخين، ليس لها أي دور تنفيذي وإنما فقط الدراسة والنظر في الحقبة الاستعمارية للجزائر، والأهم من ذلك فتح باريس الأرشيف للباحثين بعدما كان مطلبا جزائريا طيلة عقود.
وبالنسبة لنا فان ارشيف جامعة دارام في بريطانيا ملئ بالوثائق والمستندات البريطانية التي على علاتها يمكن أن تكشف لنا شيئا عن خبايا فترة الاستعمار تلك ، ولا يفوتني هنا أن احيي جهود البروفيسور بدر الدين حامد الهاشمي صاحب كتاب السودان بعيون غربية الصادر عن مكتبة جزيرة الورد بالقاهرة في العام 2013م والذي قدم له كل من الصحفي مصطفى عبد العزيز البطل، والسفير جمال محمد إبراهيم ، وهو ترجمة لوثائق ومخطوطات مهمة عن موضوعات سودانية مختلفة جديرة بالدراسة .