تأملات – جمال عنقرة – الأمير النور عنقرة .. ودوره في تحرير الخرطوم

الخرطوم الحاكم نيوز
هذا المقال أكتبه بناء علي طلب أخي الأستاذ أسامة عوض الله (أبو الساموراي) مدير تحرير صحيفة (ألوان) الغراء، ومعذرة إذ جاء متأخرا بساعات عن الذكري المجيدة، ذكري تحرير الخرطوم في السادس والعشرين من شهر يناير عام 1885م، علي أيدي ثوار المهدية من أهل السودان جميعا بلا استثناء، إلا قلة ممن ناصبوا الإمام العداء متذرعين بحجج واهية، وهذه من سنن الحياة المعروفة، وسبب تأخر المقال أن طلب أخي أسامة جاء في ذات يوم الذكري، وهو يوم كنا نخطط لاحيائه بحدث عظيم حالت بعض الظروف العارضة أن يكون في ذات اليوم، ولكنه سيقام بإذن الله تعالي قريبا في بحر هذه الأيام الخالدات، بمشاركة ورثة المحررين جيش الوطن، جند الفداء الذين استحقوا الثناء قديما وحديثا، وإلى يوم الدين بإذن الله القوي الناصر النصير.
وقبل الحديث عن دور الأمير النور عنقرة في تحرير الخرطوم، لا بد أن نثبت أنه ليس أمراء المهدية وحدهم، ولكن كل المجاهدين الأشاوس كانت لهم أدوار ومواقف خالدة في ذاك الحدث العظيم، ولم أقبل بالحديث عن دور الأمير النور عنقرة وحده في هذا المقال لصلة القربي وحدها، وأنا حفيده المباشر، وأكثر من ارتبط اسمه باسمه، وأكثر من جنيت ثمار هذا الإرتباط فحسب، ولكن أيضا لأن دوره كان عظيما جدا، ومع ذلك غفله كثير من المؤرخين، سوي الراحل المقيم الأستاذ محمود أبو شامة له الرحمة والمغفرة في سفره العظيم (من أبا إلى تسلهاي) وهو المرجع الذي أنقل منه نصا بعض ما ذكره الأستاذ ابو شامة عن معركة الشبكات التي قادها الأمير النور عنقرة في المنطقة بين (ابوطليح) و (المتمة) والتي كسر بها شوكة الإنجليز، وهزمهم شر هزيمة، وقتل قائد المعركة الجنرال سير هيربرت استيوارت، وفكر بعدها كثيرون من قادة الحملة في الرجوع، وقدم الإمام المهدي انذاره الأخير إلى غردون قبل الهجوم علي الخرطوم.
والأمير النور عنقرة هو النور بن محمد بن عبدالله بن الملك متى بن الملك ابراهيم بن حسن بن الملك محمد خير بن الملك عمر بن الملك فضل بن الملك خضر بن الملك أبوسوار بن الملك عبدالمنان محمد فوراوي بن الملك الياس بن الملك إبراهيم بن الملك خضر بن الملك ناصر بن الملك متى بن الملك محمد بن الملك موسى بن الملك سابي الليل متى بن الملك موسى ملك الدفار بن دهمش بن محمد البدر سمرة بن سرار بن السلطان حسن كردم بن ابوالديس بن خزاعة بن حرفان بن مسروق بن أحمد اليمني بن ابراهيم جعل بن ادريس بن كس بن خزرج بن عدي بن قصاص بن كراب بن حاطل بن ياطل بن ذي الكلاع الحميري بن حمير بن سعد الأنصاري بن الفضل بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف .. ولد في أبكر بالشمالية عام 1836م، وتوفي في أم درمان عام 1924م، ودفن في مقابر أحمد شرفي، وهو بديري دهمشي، لكنه كان يتحدث لغة الدناقلة بطلاقة، ويحمل في وجهه شلوخ الشايقية، لذلك تنسبه بعض الكتب إلى الشايقية، وأخري إلى الدناقلة، وهو قد بايع المهدي عام 1882م، عندما كان يحاصر مدينة الأبيض، وكان النور قبلها قائدا لحامية بارا برتبة الأميرلاي (عميد) في الجيش التركي المصري، فسعد المهدي بمبايعته، ومنحه لقب (أمير) وأهداه جلبابه الخاص، بدلا عن الزي الميري الذي أتي به للمبايعة.
عندما أحكمت قوات المهدية التي كان يقودها الأمير عبدالرحمن النجومي حصارها علي الخرطوم، كان التحدي أما الإمام أن يستسلم غردون، أو تقتحم القوات المدينة قبل وصول حملة النيل التي ارسلت لإنقاذ غردون، فأرسل الإمام المهدي يوم الثلاثاء الثالث عشر من يناير عام 1885م، قوات الراية الخضراء، راية الخليفة محمد الحلو، بقيادة الأمير موسي محمد الحلو، ومعه خمسة أمراء عرفوا بالشجاعة والإقدام هم الأمير محمد ودبلال، والأمير عبدالله برجوب، والأمير إبراهيم عجب ألفية، والأمير البشير عجب ألفية، والأمير أحمد جفون، وفي اليوم التالي مباشرة ارسل قوة قوامها ألف مقاتل من حملة الأسلحة النارية، بقيادة الأمير النور عنقرة، ونائبه الأمير صديق الكناني، ومعهما من حملة الرايات، الأمراء علي ود قمر، وعلي أحمد الهاشمي، والطائف ود العجوز، والحاج مرزوق الشايقي، وحسن حسين، ومحمد العريق، والبدوي العريق، وبشير الياس، وعبد القادر البشير، والبدوي ابو صفية، ومحمد البدوي الصديق، وبكر جودة.
وكانت تعليمات الإمام المهدي قد تمثلت في:
1 قتل أكبر قدر من الجمال لشل حركتهم،
2 محاولة تأخير الطابور دون الدخول معه في معارك حاسمة إلا إذا أصبح قريبا من الخرطوم.
3 منعهم من احتلال المتمة وبربر.
4 لا تصل القوات البريطانية الخرطوم قبل إكتمال تحريرها.
عندما وصل الأمير النور عنقرة وجد أن القوات الإنجليزية قد خرجت من معركة (ابوطليح) وكانت تتجه صوب المتمة، فقطع لها الطريق في غابة الشبكات، وهنا نترك المجال للأستاذ محمود أبو شامة، وننقل حرفيا ما جاء في وصفه للمعركة، فيقول الأستاذ أبو شامة (إن قيادة الأمير النور عنقرة للجهادية “حملة البنادق” في غابة الشبكات أظهرت براعة شلت جميع مبادرات الجيش البريطاني، وظل الأمير يلهو بالطابور الإنجليزي زهاء الثماني ساعات لا يعرفون ماذا يفعلون، حطم قيادتهم بإصابة استيوارت، أما الهجوم الذي أمر به ظهر ذلك اليوم، فإن الإنجليز إلى يومنا هذا لا يعرفون الهدف منه، ثم دخل المتمة ليقود من بها ويبعد المحاصرين عنها،واستفاد من كل حائط وحجر، بداخل المتمة وجعلها كخزينة عصية الكسر، خطيرة الإقتراب، دار حولها ولسون بكل ما أوتي من أسلحة فلم يجد بها منفذ جندي، ثم عندما هال عليهم حجارته ساخرا منهم، ناموا علي الأرض لا يعرفون كيف الخروج من مصيدته.)
ويواصل الأستاذ ابو شامة سرده فيقول (قبل أن يتمكنوا من التهام فطورهم أصدر الأمير النور عنقرة أوامره بإطلاق الرصاص علي المعسكر، مشددا على التصويب الدقيق قبل إطلاق النار، ومذكرا أن الطلقات التي تصيب كبار الضباط أجدي من التي تصيب الجنود، كما أن الطلقة التى تقتل جملا ستمنع امدادهم ورجوعهم، وفي التاسعة إلا ربع بدأت أمطار الرصاص تنهمر رذاذا حمئا علي طابور الصحراء الإنجليزي، الضرب كان فرديا، ولكن ألف بندقية رمنقتون في أيدي جنود خبروها سنين، ويجيدون التصويب، الإنجليز بداخل الزريبة لم يروا سودانيا بالغابة، وإنما كانت تصلهم رسائلهم السريعة القاتلة، الطريقة الوحيدة التي بدأوا يخمنون بها مصدر الرصاص هي خروج الدخان من كل طلقة تنفثها الرمنقتون، ولكن هذه النقطة لم تفت القائد المحنك الأمير النور عنقرة، فكانت قواته لا تنام خلف ساتر، وكان عليها ابدال مواقعها في اتجاه معاكس للهواء، فبدأ الإنجليز في السقوط واحدا تلو الآخر، فمات منهم عدد كبير، وآخر ينزف بغزارة، وثالث ينتظر عاجزا)
وبلغ عدد ضحايا الإنجليز في معركة الشبكات أكثر من أربعمائة قتيل، منهم القائد سير هيربرت استيوارت، والصحفي كاميرون مراسل صحيفة استاندرد، وسنت ميربرت مراسل صحيفة مورننق بوست، وليوتنانت كولونيل كرتشل نائب قائد لواء حرس الهجانة، والضابط ليوتنانت مونرو، وعدد كبير من الجرحى، ولم تحتسب قوات الأمير النور عنقرة ولا شهيد في هذه المعركة البطولية الحاسمة.
بعد الهزيمة التاريخية للحملة في الشبكات، وبعد معركة المتمة، ارسل الإمام المهدي انذاره الأخير إلى غردون يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر يناير عام 1885م، ومما جاء في هذا الإنذار (إن النصائح تتابعت إليك ولم تلق لها بالا، والدلائل ترادفت عليك ولم تزدك إلا ضلالا، وكثرة المواعظ باللين لم تفدك إلا نفورا، واستكبارا، لأن الحق يغشي صدور المؤمنين، ولا يزد الظالمين إلا خسارا، وقد ورد إلينا جوابك الذي قصدت به خداع الأهالي، بأن نجدة الإنجليز متوجهة إليك علي ثلاثة فرق لتنصرك، وجوابك هذا يدل علي كثرة شفقتك وشدة مضايقتك … فاعلم يا عدو الله أن الأخبار الحقيقية معنا وليس معك، ولم يصل إلينا من الأخبار ما فيه لمهجتك انتعاش ولا لشوكتك انتقاش، بل لا مفر لك من القتل بأيدينا أو الموت بقلة المعاش) وبعد ساعات من ذلك الإنذار كان الهجوم الحاسم من كل الجهات، وكان النصر وتحررت الخرطوم يوم الإثنين التاسع من شهر ربيع الثاني عام 1302 هجرية، الموافق السادس والعشرين من شهر يناير عام 1885م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى