تأملات – جمال عنقرة – الطريق الثالث .. لا يزال الخيار الأمثل (2-2)

الخرطوم الحاكم نيوز

تحدثت في مقال الأمس عن الخيارين اللذين كانا سائدين علي أيام مخاض ثورة ديسمبر المجيدة الأخيرة، الثائرون كان شعارهم (تسقط بس) وبعض مناصري الحكومة رفعوا شعار (تقعد بس) وذكرت أن هناك أكثر من مجموعة كانت تبحث عن طريق ثالث بين (تسقط بس) و (تقعد بس)، وليس لأني كنت من أصحاب الطريق الثالث، لكنني – كنت وما زلت – أري أنه المخرج الامن الذي يحقق مقاصد الثورة، دون أن تدخل البلد في متاهات لا تحمد عقباها، وفي ذهني مآلات كثير من دول الربيع العربي.
وسقوط الإنقاذ الذي حدث، لم يحدث لقوة منطق الداعين للسقوط، ولا لأن عناصر الثورة قد اكتملت، ولكن الإنقاذ سقطت لأنها فقدت كل مقومات البقاء، وعجل من ذلك أيضا تعارض مصالح أركان الإنقاذ، واختلافهم علي قراءة المشهد، ففي يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر فبراير حدث شبه إتفاق علي أن يحدث الرئيس البشير تغييرات جذرية في الحكم، وكان من ضمن هذا الإتفاق أن يتخلى عن حزب المؤتمر الوطني، ويتنازل عن رئاسته، وأبلغ بذلك اللجنة الأمنية المكونة من وزير الدفاع، ومدير جهاز الأمن الوطني، ومدير عام الشرطة، وقائد قوات الدعم السريع، وكلف الرئيس مدير جهاز الأمن الفريق أول مهندس صلاح عبدالله (قوش) لتبليغ الخبر لقادة الصحافة والإعلام، وذهب هو إلى إبلاغ المكتب القيادي للمؤتمر الوطني، ولكنه تعرض لضغوط كثيفة اضطر معها إلى تغيير الإتفاق، وتغيير الخطاب الذي كان ينتظره الشعب السوداني كله، وكان مقدرا أن يقدمه للقيادات التي كانت محتشدة في حدائق القصر الجمهوري، فألقي البشير خطابا مختلفا تماما، وكانت هذه هي النقطة الفاصلة في مسيرة الثورة، فالذين كانوا يأملون في الإصلاح ضعف أملهم حد التلاشي، وازداد الشارع غليانا واشتعالا، إلا أن التغيير ذو الأثر الكبير كان في اللجنة الأمنية، فالذين يحسنون فيهم الظن يقولون أنهم فقدوا الأمل في الهبوط الامن بعد أن تراجع الرئيس عن اتفاقه معهم، وآخرون يتهمونهم بخيانة أمانة التكليف، ولست في مقام ترجيح رأي علي الآخر، ولكن الذي ثبت أنهم كانوا واهمين حينما ظنوا أنهم سيجدون القبول عند القوي المؤثرة في الشارع، ولنكون أكثر تحديدا فإن وزير الدفاع الفريق أول ركن عوض ابنعوف، ومدير جهاز الأمن الفريق أول صلاح قوش، هما أصحاب الأثر الأكبر في قرار الانحياز العسكري للشارع، ثم يأتي بعدهم، وفي مرحلة لاحقة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وكانت المفاجأة والمفارقة التي لم يضع لها هؤلاء العسكريون حسابها، أنهم لم يجدوا القبول عند المحركين للثائرين، والمؤثرين فيهم، وكانت هذه هي المفارقة التي أحدث شرخا في جسد الثورة ظل يؤثر سلبا علي مسيرتها حتى اليوم، فالقيادات العسكرية التي قادت التغيير، اضطرت كلها للترجل عن قطار الثورة، وهي لا تزال في بداية طريقها، والذين خلفوا من بعدهم لم يجدوا القبول أيضا عند بعض من يتحدثون باسم الثورة، ولما لم يجدوه مناسبا اتهامهم بموالاة النظام السابق، ذلك أنهم كلهم من العسكريين المحترفين المميزين، فلما لم يجدوا ذلك مناسبا، اتهموهم اولا بسرقة الثورة، ثم ظلوا يسعون بعد ذلك لالصاق تهمة قتل المعتصمين بهم.
اضطراب مسار الثورة، واختلال موازينها، وسوء حصادها، جعل أصحاب الرأيين المتعارضين (تسقط بس، وتقعد بس) يتمني كل منهم لو أنه استقبل من أمره ما استدبر، ولو أتيح ذلك لهم جميعا، لما اختار الموقف الذي اختاره من قبل.
الناس في السودان صاروا اليوم يتبادلون الاتهامات، فكل طرف يتهم الآخرين بسرقة الثورة، واضاعتها، أما عموم الشعب، فأصابتهم حالة من اليأس حتى أن كثيرين صاروا يتمنون زوال هذا الحال مهما كان الثمن، ومهما كانت النتيجة، ولو أدت إلى عودة النظام السابق بكل ما كان فيه من خير وشر، وفي المقابل يوجد من يرون أن الثورة فشلت وتراجعت لأنها لم تصف النظام السابق تصفية كاملة، وهؤلاء يسعون حقا وباطلا، لإلغاء ومحو كل أثر للنظام السابق، ولو كان خيرا.
وفي ظل هذا التناقض لا أري مخرجا إلا في الطريق الثالث، والطريق الثالث عندي يحققه أهل السودان جميعا، ويحققه جميع مكونات الثورة، العسكريون، والمدنيون، قحت، والحركات المسلحة، والكيانات الفاعلة الأخري، والطريق الثالث يتحقق بالتمسك بكل قيم وأدب ومواريث ثورة ديسمبر المجيدة، التمسك بشعار الثورة، (حرية، سلام وعدالة) وبالوثيقة الدستورية وتعديلاتها، ومتونها وحواشيها، وباتفاق سلام جوبا، وملحقاته.
الطريق الثالث ينبغي أن يسلك الدرب الذي يوصل إلى انتخابات حرة نزيهة شفافة، لا يعيبها شئ، وأعتقد أن عامين كافيان لقيادة الناس لذلك، تكون السلطة خلال هذين العامين لمجلس السيادة بعد تعديلاته واضافاته الجديدة بممثلي حركات السلام، أما السلطة التنفيذية فيكون الوزراء خلال هذين العامين من أهل الخبرة والاختصاص، ويكون الولاة من الإداريين المحنكين، والعسكريين المتقاعدين في المناطق المشتعلة، وبالنسبة للمجلس التشريعي، تكون عضويته موزعة علي كل ولايات السودان، وتستوعب كل مكونات المجتمع الفاعلة، النساء والشباب، والرجال، والإدارات الأهلية والأكاديميين، وبقية مكونات المجتمع، وتتفرغ القوي الحزبية والتنظيمية لبناء أحزابها، واستعدادها للإنتخابات المرتقبة، وتؤسس خلال هذه الفترة المفوضيات المهمة، مثل مفوضيات الإنتخابات، والخدمة المدنية، ومكافحة الفساد، والحقيقة والمصارحة، وغيرها من المفوضيات المطلوبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى