تأملات – جمال عنقرة – الزعيم عبد الرسول النور .. وحديث القبائل والأصول

الخرطوم الحاكم نيوز
بعث لي أخي الحبيب الزعيم المجاهد عبد الرسول النور بمقال سكب فيه عصارة خبرات السنين، وحصاد العلوم، وركائز المعارف المدخورة عند الرجل الأمة، والمقال حول تسييس القبائل، وقبلنة السياسة في السودان، ولما وجدت فيه من كنوز رأيت أن أشرك معي القراء والمهتمين والباحثين، بنشره هنا كما هو،
تسييس القبائل. و(قبلنة) السياسة!!
( يا أيها الناس.. إنا خلقناكم من ذكر وأنثى.. وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم.. إن الله عليم خبير) صدق الله العظيم..
الإنسان مخلوق اجتماعي بطبعه يعيش في جماعات متالفة أو متنافسة أو متدافعة.. ويكون ولاؤه لفصيلته التي تأويه.. ومن هنا نشأت العصبية والحمية للجماعة ذات المصلحة والمصير المشترك.. بدأ من الأبوين والعائلة الصغيرة والرهط والعشيرة والقبيلة.. لحاجة الفرد للحماية في التدافع والكدح والمكابدة فقد خلق الإنسان في كبد..
القبيلة.. هى ذلك الكيان الجامع الفضفاض لأناس جمعتهم المصالح المشتركة والمخاوف والمصير الواحد.. يطيعون ما يصدر من قيادة القبيلة طاعة عمياء من غير بصر أو بصيرة..في حالتي العسر واليسر.. وقد عبر عن ذلك الشاعر القديم.. لعله دريد بن الصمة..وقد بلغ من العمر عتيا..
ومحضتهم نصحى بمنعرج اللوي
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد..
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت.. وإن ترشد غزية أرشد..
إن الحديث عن القبائل بأنها منحدرة من رجل وامرأة.. مثل آدم وحواء وهما اصل الإنس.. (فكلكم لآدم وآدم من تراب) حديث لا يسنده الواقع أو التاريخ..
فالقبائل كما تعرف في السودان.. (اولاف وليست أجناس.. ولف وليست جنس).. ويروي عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.. قوله.. ابن اخت القوم منهم.. ومولي القوم منهم.. وزادوا عليه اقتداء.. حليف القوم منهم وقس على ذلك.. بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم.. قال سلمان منا ال البيت.. وسلمان المعنى هو سلمان الفارسي.. الصحابي الجليل.. الذي أشار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق في واقعة الخندق الشهيرة التي انتصر فيها المسلمون على قلتهم على جيوش الكفار التي هاجمت المدينة.. وربما شمل الانتماء إلى ال البيت صهيب الرومي وبلال الحبشي.. وبالطبع فإن ماريا القبطية..(وهي قبطية) وأم المؤمنين صفية بنت حيي ابن اخطب (وهي يهودية) من ال البيت وهي من ال البيت الهاشمي.. بل إن قبيلة قريش التي ينتمي إليها كثيرون تقربا إلى الإشراف ال البيت.. هي من العرب المستعربة من نسل النبي إسماعيل بن إبراهيم الخليل.. من زوجته الجرهمية.. وقد لخص كل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في وصف العروبة.. بأن كل من تكلم العربية فهو عربي..
اما تكوين القبائل في السودان فقد مر بمرحلتين.. هجرات القبائل في القرن الثالث عشر و ما ترتب عليها من اجتماع ومصاهرة.. وافتراق سلما كان أو حربا.. ثم الحراك الثوري قبل وأثناء الزحف الشعبي المسلح الذي حرر السودان ورفع رايات الإسلام بقيادة الإمام المهدي عليه السلام.. حيث اختلطت القبائل ببعضها البعض وتحالفت كثير من القبائل مع بعضها وتصاهرت وتناصرت ثم تفرقت بهم السبل بعد كرري وأم دبيكرات.. وكانت كل قبيلة تحمل معها بطنا أو فخذا من قبيلة أخرى اعتبر نفسه من القبيلة التي يعيش معها.. ولاؤه لها وحمايته عليها.. والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى..
ولعلنا نلاحظ تشابه أسماء بعض خشوم البيوت في العديد من القبائل.. مثلا.. السلامات.. اولاد ام سليم.. سليم.. اولاد سالم.. دار سالم.. اولاد عمران.. بني عمران.. العمارنة.. العمراب.. العامراب.. اولاد عامر.. العميرية.. بني عامر.. المعاقلة.. اولاد عقلة.. العقليين.. وغيرها.. ربما يكون التشابه عرضا أو ذا صلة.. ولكن الكل متحمسون ومتعصبون لوضعهم الراهن..
ولحساسية الولاء والانتماء لكيان جامع وتحصينا له من التصدع.. فقد وضعت بعض القبائل من بينها المسيرية قانونا صارما حازما ويجرم كل من يحاول الحديث السلبي عن أصول وانساب أفراد المجتمع.. وهو قانون (الندع) حيث يدفع الشخص الذي يطعن في أنساب الناس وانتمائهم غرامة مالية موجعة زجرا للآخرين أن يأتوا مثله..
كان لقب قائد القبيلة المحبب هو الشيخ.. وربما خوطب بشيخ العرب.. وكانت القيادة تفرزها وتعضدها شخصية الشيخ الكارزمية وكرمه وشجاعته وحكمته وثراؤه.. وقوة شكيمته ورهطه..ولولا رهطك لرجمناك.. هكذا قالها.. قوم شعيب لنبيهم..وكان الناس يثقون في حكمة وحنكة شيوخ القبائل..
الواعي ما بوصوا.. من أمس الضحى.. توري ابوزنود ساقوا.. يا مقنع ولياتوا..
كان شيوخ القبائل وزعماؤها يجمعون بين الزعامة الدينية والزمنية.. رهبان الليل وفرسان النهار..(شرعية التصدي) ومن هذا المنطلق اختار الإمام المهدي الشيخ الفقيه محمد الرقيق ود إبراهيم أميرا على المسيرية والرزيقات ودينكا ماريق أهل السلطات اروب ولد بيونق.. إبان انطلاق الثورة المهدية.. فقد كان الفقهاء فرسانا والفرسان فقهاء مثل سليمان ليل.. وعلى مسار.. والشيخ علي أبو قرون.. والفكي على الميراوي.. وعبدالقادر أمام ود حبوبة.. و الناظر محمد الفقير ود الجبوري.. ورحمة ولد آدم الدليديم.. وغيرهم كثيرون.. وكان شيخ القبيلة هو الأب الروحي للقبيلة عدلا ومساواة وبيته المفتوح قبلة لكل صاحب حاجة او غرض.. ولم تكن الوراثة قدرا محتوما.. فالقيادة لمن تقلد بالكرم والشجاعة ومالت إليه قلوب الجماعة..صاحب المبادرة والباس ووسع بأخلاقه كل الناس..
في سياسة الحكم الثنائي التي هدفت إلى محو كل ما خطته الثورة المهدية من سياسات وممارسات وشخصية من أجل تمكين النظام الجديد ليتمكن من الأخذ بمفاصل الدولة وعلى رأسها السيطرة على القبائل عبر إدارة أهلية تخضعها رغبا أو رهبا لسياسات الحكم الجديد.. وعمد سلاطين باشا بحكم خبرته الطويلة ومعرفته الواسعة بأحوال السودانيين.. بالتوصية باختيار الشخصية المناسبة للموقع المطلوب.. ولأن معظم الناس كانوا اما خائفين أو زاهدين فقد لاذوا بالصمت المبين.. وظل هكذا حال حتى جاء الإداري البريطاني لو غارد عام 1922م فوضع أسس الإدارة الأهلية بمستوياتها الثلاث بعد جربها في نيجيريا.. مع بعض الاختلاف في المسميات.. شيخ.. عمدة.. ناظر.. أو شيخ.. شرتاي.. ناظر.. أو شيخ.. فرشة.. سلطان
.. أو مك.. أو ملك.. أو دمنقاي.. وغيرها من المسميات والمعنى واحد.. وأصبحت الإدارة الأهلية برموزها.. وبخفرائها بالشال الأحمر والبندقية اب عشرة.. ومحاكمها الشعبية.. الناجزة حلقة من حلقات الحكم المحلي.. تمتاز بسهولة تحركها وكفاءتها الإدارية والاجتماعية والأمنية وقلة تكلفتها المالية.. وطاعتها لسلطات المجالس المحلية.. الريفية والبلدية ورضائها بوضعها ذلك..
وقد استطاع زعماء القبائل وقتها من الموازنة الدقيقة بين رغبة سلطات الاحتلال وهي ما يجب عليهم تنفيذها.. فطلباتهم أوامر.. وبين حماية أهلهم وخدمتهم والحفاظ على كيانهم الاجتماعي والاقتصادي.. وقد نجح كثيرون من هؤلاء الزعماء من إرضاء طرفي المعادلة على طريقة شعرة معاوية.. وكثيرون منهم ساهموا في الحركة الوطنية المطالبة بتحقيق الاستقلال أو الاتحاد مع مصر.. وليس صدفة أن يكون مقدم اقتراح إعلان الاستقلال من داخل البرلمان ومثنيه.. عبدالرحمن دبكة نائب دائرة بقارة.. نيالا الغربية( حزب أمة) .. ومشاور جمعة سهل نائب بارا..(وطني اتحادي) وهما يمثلان أيضا بقارة وابالة كردفان ودارفور فقد كان الاختيار دقيقا ومعبرا وموضوعيا..
بالرغم من وجود السلطات المحلية الا ان الادارة الأهلية مثلت مظهر السلطة وهيبتها واحترامها بالرغم من محدودية امكانياتها.. وقد عمدت السلطات الاستعمارية إلى الاهتمام بمستقبل البيوتات الحاكمة بتعليم الأبناء والاهتمام بهم وجمعهم في مدارس معينة مثل بخت الرضا ليتعارفوا وتنشا بينهم صداقات تفيد استمرار الحكم واستقراره.. والدفع ببعضهم للكليات العسكرية ليتخرجوا منها ضباطا.. والنماذج أوضح من أن نذكرها.. ومما جعل بعض المحرومين من أبناء تلك القبائل أن يكونوا اتحادات تطالب بتصفية الادارة الأهلية وكان أشهر تلك الاتحادات اتحادي المسيرية ودنقلا.. وكان ذلك بعد نجاح ثورة أكتوبر 1964م.. وقد رد زعماء العشائر على تلك الدعوة بتشكيل اتحاد زعماء العشائر.. برئاسة الناظر سرور رملي.. وظل الجدل حول مصير الإدارة الأهلية.. تطويرا أو تطهيرا ام تصفية محتدما.. حتى جاءت مايو 1969م..ضيفا ثقيلا على الوطن المنكوب.. نتابع..عبدالرسول النور إسماعيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى