تأملات – جمال عنقرة – السياسيون السودانيون .. تجمعهم المصائب وتفرقهم المكاسب (3)

ما كنت أنوي قطع حلقات هذا الموضوع قبل أن تنتهي، ذلك أن كثيرين ظلوا يتابعونها باهتمام شديد، لا سيما الذين لم يكونوا شهودا علي أحداث تلك المراحل من تاريخ السودان التي اتخذتها دليلا وشاهدا علي كيف تجمع المصائب الساسة السودانيين، وكيف تفرقهم المكاسب، فما كنت أنوي قطعها لولا مقال الأمس الذي بعث لي به أخي الحبيب الزعيم المجاهد عبد الرسول النور إسماعيل الذي تحدث فيه عن مبادرة الشيخ الياقوت لوحدة الصف الوطني والسلم المجتمعي، وهو مقال لا ينتظر، ولا يمكن تأخيره، لأهمية كاتبه وموضوعه، فمبادرة الشيخ الياقوت صارت الأمل الذي ينتظره الوطنيون السودانيون جميعا، مدنيون وعسكريون، قحاتة، وحركات، مبتعدون، ومبعدون، وبقايا نظام سابق أيضا، إسلاميون وشيوعيون وقوميون عرب، أنصار وختمية، أمة واتحاديون، غرابة وأولاد بحر، هدندوة وبني عامر، وهلم جرا، والزعيم عبد الرسول النور يجمع بين كل هؤلاء، ولعل ذلك هو السر وراء اخياره رئيسا لمجلس شوري المبادرة الذي جمع سودانيين لا تجمعهم إلا الأفراح والأتراح قديما، وتجمعهم هذه الأيام صفوف الخبز والوقود، ويجمعهم الأمل في أن يعبر أهل السودان وينتصرون، ولذلك قطعت سلسلة المقالات ونشرت يوم أمس مقال الزعيم عبد الرسول الذي حمل أكثر من إشارة ذات دلالات ومعان.
المقال السابق في هذه السلسلة تحدثت فيه عن فرصة المصالحة الوطنية بين الرئيس نميري له الرحمة والمغفرة، وبين الجبهة الوطنية التي كانت مناهضة لها، وذكرت كيف كانت المصالحة التي قادها السيد فتح الرحمن البشير يرحمه الله، فرصة تاريخية لتضميد الجراح التي سالت دماؤها في سبيل الحكم، وكانت فرصة لجمع الوطنيين السودانيين الحاكمين والمعارضين علي صعيد واحد، إلا أن التقديرات المتباينة لأطراف الجبهة الوطنية لمكاسب المصالحة ومن بعدها المشاركة في حكم مايو، وتربص بعض الحرس القديم لمايو بالعائدين، والكيد لهم، أذهب ريح المصالحة وبدد خيراتها، ثم ذكرت كيف أن نتيجة انتخابات العام 1986م، قد أتاحت فرصة لإحياء مشروع الجبهة الوطنية الذي قاد فكرة تجديدها السيد الشريف زين العابدين الهندي له الرحمة والمغفرة، وكاد الحلم أن يصبح حقيقة، لولا إتفاق السيدين المهدي والميرغني بليل، واتفاقهما علي تكوين حكومة ائتلافية من حزبيهما الأمة والاتحادي واستبعاد الجبهة الإسلامية القومية من الحكم.
عندما قامت الإنقاذ الوطني في الثلاثين من يونيو عام 1989م، رحب بها كثيرون، ولو بالصمت، وتهيأت ظروف كثيرة لها لتجد هذا القبول، أدناها سوء الحالتين المعيشية والأمنية في خواتيم عهد الديمقراطية الثالثة، وهي الحالة التي جعلت الشريف زين العابدين الهندي يقول عبارته التي اشتهرت في وصف الديمقراطية (لو شالها كلب مافي زول يقول ليهو جر) فظن كثيرون في النظام الجديد خيرا، حتى رئيس الوزراء الذي أسقطت الإنقاذ حكومته السيد الصادق المهدي، بسط يده للحوار، من أجل بناء نظام سياسي مستقر، إلا أن الذين دان لهم الحكم في ذاك الزمان توهموا أنه بذات السهولة التي استولوا بها علي الحكم، يمكن أن يستمروا بها وحدهم دون أهل السودان أجمعين يحكمون السودان، ويتحكمون في أهله، وخيراته، ويرفلون في نعيمه، فكانت النتيجة أن ابتعد الناس كلهم عنهم، وتجمعوا علي صعيد واحد معارضين لهم في التجمع الوطني المعارض الذي ضم أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي، والحزب الشيوعي السوداني، وأحزاب البعث، وبقية الأحزاب اليسارية والقومية، والحركة الشعبية، وقيادات الجيش المقالين، وبعض الرموز والقيادات النقابية والفكرية المعارضة، وتم اختيار السيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي رئيسا للتجمع والسيد مبارك عبدالله الفاضل المهدي الأمين العام لحزب الأمة القومي أمينا عاما، ووحد التجمع كلمته وقوته، وقواه لمناهضة نظام الإنقاذ، وتمثلت قمة التوافق السياسي والفكري للتجمع المعارض في مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية الذي عقد في العاصمة الارترية أسمرا في العام 1995م، وهو المؤتمر الذي أقر حق تقرير المصير بالنسبة لجنوب السودان.
نواصل بإذن الله تعالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى