أخر الأخبار

رحيل الكبار… حين تفقد البلاد مكتباتها الحية

بقلم: د. صلاح دعاك

رحم الله الشيخ قريب الله، ورحم الله الشيخ البروفيسور شعاع الدين، رحمة واسعة شاملة، وجعل مثواهما في أعلى الجنان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
لقد فقد السودان برحيل البروفيسور شعاع الدين رجل علم وورع، وفقد معه مكتبة تمشي على قدمين، ومرجعا علميا وأخلاقيا نادرا، كان علمه حاضرا، ونفعه ممتدا، وذكره طيبا بين الناس. برحيله، لم نفقد أستاذا فحسب، بل فقدنا مدرسة كاملة في العلم والتواضع والخلق.
أما وفاة الشيخ قريب الله، فقد جاءت مفاجئة، تسارعت أحداثها من لحظة مرضه إلى وفاته في زمن قصير، وكأنما شاءت إرادة الله أن يرفعه إليه قبل أن يشهد ما آل إليه حال السودان من ترد وألم. كان من القلائل الذين أحبوا السودان حبا خالصا صادقا، حبا للوطن من أجل الوطن، بلا مصلحة ولا ادعاء، ولا انتظار مقابل.
ما رأيت أحدا أحرص منه على جمع الناس على الخير، ولا أشد حرصا على إبراز مناقب أصدقائه ونشر فضائلهم بين الناس، إيمانا منه بأن الخير إذا أظهر تكاثر، وإذا أخفي ذبل. كانت حياته كلها رسالة محبة، وبذل، وسعيا صادقا لخدمة الناس، دون ضجيج أو طلب شهرة، ودون أن ينتظر جزاء أو شكورا.
اللهم ارحم البروفيسور شعاع الدين، وارحم الشيخ قريب الله، واغفر لهما، وتجاوز عن سيئاتهما، واجعل ما قدماه في ميزان حسناتهما، وارفع درجتهما في عليين، واجعل قبريهما روضة من رياض الجنة، واجزهما عن السودان وأهله خير الجزاء.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
كان للشيخ قريب الله ولاء استثنائي، صادق وعميق، للإذاعة، ولحوش الإذاعة على وجه الخصوص؛ ولاء لا يشبه المجاملة، ولا تحكمه الوظيفة، بل هو انتماء روحي ووجداني، كأن الإذاعة كانت بيته الثاني، وصوته الذي يمتد إلى الناس كل صباح، يحمل لهم الكلمة الصادقة والرسالة النقية.
وقد تحركنا، في وقت سابق، بخطى جادة لأن يسمى أحد استديوهات الإذاعة، أو إحدى منشآتها وقاعاتها، باسم الشيخ قريب الله، وفاء لما قدمه، وحفظا لأثره، وتخليدا لقيمة رجل أعطى دون ضجيج. غير أن الحرب، كعادتها، بعثرت الأحلام، وغيرت كل المخططات، وأوقفت ما كان يراد له أن يكون فعل اعتراف مستحق.
ومع ذلك، فإننا نأمل — بل نوقن — أن الذاكرة لا تموت، وأن الوفاء لا يسقط بالتقادم. نؤمن أنه حين تعود الأحوال إلى نصابها، ويستعيد السودان عافيته، لن ينسى الشيخ قريب الله، وسيعاد فتح هذا الملف بروح أوفى، ليخلد اسمه في المكان الذي أحبه وأخلص له، وكان جزءا من تاريخه الإنساني والمهني.
ومن بين بصماته المضيئة، يظل برنامج «ألا هل بلغت» واحدا من أميز البرامج الدينية في الإذاعة؛ ذلك البرنامج الذي كانت تفتتح به الإذاعة بعد تلاوة القرآن الكريم، مباشرة بعد صلاة الصبح. وقد كنت أتابع عن قرب كيف كان الشيخ يجتهد في انتقاء العلماء والضيوف، حتى أولئك الذين كانوا يحضرون من خارج السودان، حرصا على جودة المادة، وصدق الرسالة، ونقاء الخطاب.
ورغم قلة الإمكانيات وضعف الدعم، كان حريصا على استمرار البرنامج، إلى الحد الذي كان يتحمل فيه من ماله الخاص نفقات الحركة والمواصلات، لا لشيء إلا لأن همه كان تقديم الفائدة للناس، وبذل العلم خالصا لوجه الله. كان همه أكبر من أي منفعة شخصية، وأسمى من حسابات دنيوية؛ يفكر بعقل واع، وقلب ممتلئ بحب هذا الوطن.
وكان، في كل ذلك، امتدادا أصيلا لسجادة الأسرة، ولعطاء عريق ظل يتوارثه أهلها عبر تاريخ السودان؛ عطاء في العلم، والخير، والخدمة العامة، وحمل الأمانة بصدق وتجرد.
نسأل الله أن يرحم الشيخ قريب الله رحمة واسعة، وأن يتقبل منه ما قدم، ويجعل أثره باقيا، وذكره حاضرا، ما بقي للإذاعة صوت، وللسودان فجر يتجدد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

11 − 5 =

زر الذهاب إلى الأعلى