كنت قد عزمت اليوم علي الكتابة عن زيارتنا أمس الأول إلى معرض منظومة الصناعات الدفاعية في قاعة الصداقة ضمن احتفالات القوات المسلحة بالعيد السادس والستين للجيش السوداني، استجابة للدعوة التى نقلها لها إبننا الإعلامي المقاتل المقدم عبد اللطيف كبير مع مجموعة من الزملاء والأصدقاء الصحفيين والإعلاميين، وكان في استقبالنا دينمو المنظومة سعادة العميد الركن المعتصم عبدالله الحاج نائب المدير العام، ومعه مجموعة من شموس المنظومة، ورغم أهمية الحديث عن المنظومة التى يرتجي منها أن تقود نهضة البلاد في مجالات شتى، إلا أن حرج الموقف العام الذي تعيشه بلدنا، لا سيما بعد المسيرة التي عرفت بمسيرة جرد الحساب، والتى جاءت ضمن ما يسمي بعملية تصحيح مسار الثورة، فهذه المسيرة، ومعطياتها، وما قد يترتب عليها، يضع البلد علي حافة الانزلاق في هاوية ليس لها قرار، ومن أجل تجنب هذا المصير المشؤوم رأيت تأجيل كل شئ، مواصلة الحديث حول أصول الأزمة، ومداخل حلها.
ودعونا نتحدث عن ذات الشئ الذي يتحدث عنه أدعياء الثورة، وأعني تصحيح المسار، وللحديث عن تصحيح المسار لا بد أن نقف أولا عند النقطة التي حدث عندها الإنحراف لنعرف من أين يبدأ التصحيح، ودعونا نتحدث حديثا واضحا وصريحا بدون أي (لف ودوران) فبعد إزاحة النظام السابق، توافق السودانيون جميعا علي أن تكون قوي إعلان الحرية والتغيير هي الحاضنة السياسية الوحيدة للثورة، وضمت قوي الإعلان في عضويتها أكثر من سبعين من الأحزاب والحركات المسلحة، والتنظيمات المهنية وغيرها، وأجمعت هذه القوي علي وثيقة دستورية تكون حاكمة للفترة الإنتقالية، واتفقوا جميعا علي ألا تكون هناك أي محاصصة سياسية أو حزبية في جميع الوظائف السيادية والدستورية، وكل المواقع القيادية، وأن تكون الكفاءة وحدها هي معيار الترشيح لأي وظيفة، ولكن بدأ واضحا أن هناك قوي وأحزاب تظهر غير ما تضمر، فاستأثرت هذه الأحزاب بالنصيب الأكبر في كل شئ، ومن طرائف ما يقال في ذلك، أن حزبا له سبعة أعضاء في ولاية معينة، نال في هذه الولاية عشرة مواقع قيادية في زمن تولي فيه أحد منسوبيه قيادة هذه الولاية، وكان من آثار ذلك السالبة أولا علي كيان قوي الإعلان نفسها، فصارت تتاكل وتتساقط، فروعها، وأعوادها الأصيلة، فخرجت منها الجبهة الثورية، وجمد حزب الأمة القومي عضويته، وصار حزب المؤتمر السوداني مذبذبا، بين المعية والضد، وخرج منها التيار الأشهر والأرسخ في تجمع المهنيين، وكان الحزب الاتحادي الموحد آخر الخارجين من قوي الإعلان، فلم يبق فيها غير الأدعياء الذين لا يجدون غيرها ثوبا يخرجون به إلى الناس، ويقبلونهم فيه.
ومن الأضرار التي جرتها المحاصصة الحزبية علي حكومة المرحلة الإنتقالية أنها قدمت أضعف مسؤولين يمرون علي تاريخ السودان، وهم ذاتهم الذين يخرج أدعياء الثورة ويطالبون بتغييرهم تصحيحا للمسار، ثم جاءت الطامة الكبري في مسألة ولاة الولايات المدنيين الذين تم تعيينهم مؤخرا علي أساس المحاصصة الحزبية، فستة من هؤلاء الولاة تم تقديمهم علي أساس أنهم يتبعون لحزب الأمة القومي، فاعترض حزب الأمة علي طريقة تعيين الولاة، ورفض المشاركة، ودعا منسوبيه الذين تم تعيينهم للانسحاب، إلا أنه لم يجد واحدا منهم استجاب لنداء الإنسحاب، ولم يجد رئيس الوزراء الجرأة لاقالتهم لأنهم فقدوا السند الحزبي الذي علي أساسه تم ترشيحهم، وبموجبه تم ترشيح الآخرين من أحزاب أخري إلى بقية الولايات، أما بقية الولاة الآخرين فأكثرهم يواجهون رفضا واسعا في ولاياتهم، ولقد نشأت حروب، وفوضى في بعض المناطق بسبب الولاة المدنيين الحزبيين.
ولا أجد تصحيحا للمسار إلا برد الأمر إلى أصله، وكان من المفروض أن نقول برده إلى الحاضنة السياسية، قوي إعلان الحرية والتغيير، ولكن هذه أيضا فقدت مشروعيتها التى جعلت منها الحاضنة السياسية الوحيدة للثورة، فلم يبق فيها أحد من مكونات قوي الثورة الفاعلة، ولذلك يري كثيرون أن يعود أمر التصحيح إلى مجلس السيادة بكامل عضويته، وبمكونيه العسكري والمدني، فيجدد هذا المجلس الثقة في رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك، وبموجب هذه الثقة المجددة، يقوم الدكتور حمدوك بإعفاء جميع الوزراء والولاة، ويقوم بترشيح وزراء بديلين حسب ما اتفق عليه أولا من ذوي الخبرة والكفاءة، ويتشاور في ذلك مع أهل الشأن والاختصاص في كل وزارة، ثم يرفع ترشيحاته لمجلس السيادة للاعتماد، أما بالنسبة للولاة، فيكون الترشيح من ذوي الخبرة من الإداريين، ومن الضباط المتقاعدين، حسب طبيعة كل ولاية، ويعتمد ذلك أيضا مجلس السيادة، ولقد اقترح كثيرون أن يكون العمل في المرحلة الإنتقالية بدستور عام 2005م، وهو دستور شاركت فيه كل القوي السياسية السودانية، عدا حزب المؤتمر الشعبي، وحسب علمي أن الشعبي أول المنادين بالعمل بدستور 2005، ونكون بذلك قد وضعنا البلاد علي أولي عتبات الإصلاح والتصحيح بإذن الله تعالي.