والدتنا الحاجة التومة بت جبارة يرحمها كانت امرأة حكيمة، ومعروفة بطول البال، والنفس البارد، ولعل هذا ما جعلها تتصدر مجالس الصلح والجوديات في حي أديب بمسقط رأسنا حاضرة شرق كردفان مدينة أم روابة عروس النيم، وهي قد ورثت هذه الصفات من والدها جدنا الشيخ جبارة عمر له الرحمة والمغفرة، وأذكر أن جدي جبارة إذا غضب من أحدنا، واراد أن يزجره أو يوبخه، كان يقول له (أمشي الله يهدينا ويهديك) أما حاجة التومة فكانت دائما تختار الأيسر، حتى ولو لم يكن بين الخيارات المطروحة، أما إذا (دخل الكلام الحوش) فتكون حاسمة جدا، وكانت لديها عبارة تستخدمها مدخلا للقول أو الموقف الفصل، فكانت تغير جلستها، وكذلك وضع ثوبها، ثم تقول (هلا هلا علي الجد .. والجد هلا هلا عليه) وكان الأقربون لها لا يراجعون حديثها الذي يأتي بعد هذه المقولة التمهيدية للحسم، ولا زلت أذكر عندما اختلف أبناء جدي ود حماد في وضع خالنا مصطفي في المنزل، فقطعت الوالدة بشهادة لصالح الخال مصطفي، فلم يعترض أحد بعد ذلك، إلا أن الخال مصطفي بعد أن حسمت له الوالدة حقه، جعل لبقية أخوانه وأخواته نصيبا مثل ما لو لم يكن له في البيت حق خاص.
ولعل الذين يتابعون ما أكتب خلال الفترة الماضية من عمر المرحلة الإنتقالية المنصرم، كنت أفرط في حسن الظن بالأخوة في قوي إعلان الحرية والتغيير، وكنت أمعن في إحسان الخطاب إليهم، حتى أني لا أستخدم مطلقا كلمة (قحت) التي تستخدم لاختصار اسمهم ظنا منى أنها لا تعجبهم، وحتى بعد أن أخبرني أحد الأصدقاء أن كلمة قحت، ابتدعها منسوبو قوى الإعلان أنفسهم، لم أستخدمها، مزيدا من التحري لاحسان الخطاب، لكنني بعد مسيرة أمس الأول، والتى أسماها أهلها (مسيرة جرد الحساب) لم أجد خيارا غير أن أفعل ما كانت تفعله والدتنا حاجة التومة بت جبارة في مثل هذا الموقف، وقلت (هلا هلا علي الجد .. والجد هلا هلا عليه) ويبدو أن الجهات الأمنية قد سبقتني في ذلك، وتعاملت مع المجموعة المحدودة جدا، التي ادعت أنها تمثل الثورة، وأثارت الشغب أمام مجلس الوزراء، فتعاملت معهم الجهات الأمنية بما يحدده القانون، ويحفظ أمن البلاد والعباد، حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه، وكانت مقتصدة جدا في استخدام القوة المشروعة، ولم يكن هناك أي إفراط كما لم يكن هناك تفريط في الأمن والسلامة.
وأول ما أقوله في قول الجد، أن الذين يهتفون ويحرقون ويخربون، ويترسون، لا أقول لا يمثلون الشعب السوداني، ولكنهم لا يمثلون لا الثورة، ولا قوي إعلان الحرية والتغيير، ولا حتى لجان المقاومة الذين يسطون علي اسمها ويفعلون ما يشاءون تحت غطائه، فهم قلة معزولة تماما، لا يمثلون أي مكون فاعل من مكونات الشعب، وكانوا قد استثمروا حالة الثورة العامة، والبغض والكراهية لممارسات النظام السابق، فتقدموا الحراك، وادعوا أن كل الذين خرجوا كانوا منهم، ليس علي أيام الثورة فقط، ولكن حتى في مسيرة الثلاثين من يونيو الماضي، مسيرة إصلاح نظام الحكم، وتصحيح مسار الثورة، فعلي الرغم من أن أهداف وشعارات تلك المسيرة كانت مختلفة تماما عن الأهداف والشعارات التي كانوا يرفعونها، لكنهم، وبما لديهم من فنيات إخراج وتزوير، استطاعوا أن يجيروا مسيرة الثلاثين من يونيو لصالحهم، لكنهم انكشفوا تماما يوم أمس الأول السابع عشر من شهر أغسطس 2020م، يوم الذكري الأولي لتوقيع الوثيقة الدستورية، فلم يخرج معهم أحد في مسيرتهم التي قالوا أنها لجرد الحساب، فلم يجدوا غير اختيار طريق المواجهة والمصادمة، لعله يرفع لهم ذكرهم، وقد خاب ظنهم.
أعتقد أن أمام الوطنيين من مكونات قوي إعلان الحرية والتغيير، وأمام العاقلين من قياداتهم فرصة، لا أعتقد أنهم سيجدون فرصة بعدها، لتنقية صفوفهم، وتطهيرها من أعداء الثورة والوطن، الذين يجعلون من الثورية ورقة توت، يتوهمون أنها سوف تداري سوءاتهم، وأرجو أن يكونوا يقظين، ومبادرين، قبل أن يؤخد المحسنون منهم بجرائر المسيئين، وعليهم أن يتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منهم خاصة.