
بسم الله الرحمن الرحيم
في ذاكرة القرية التي تشبه القلب في خفقانه، لا يزال اسم عثمان عمر الشريف يسطع كالنجم الذي لا ينطفئ ولا يأفل بريقه مهما توالت الليالي ومهما تقادمت الأزمنة وتبدّلت الفصول. كان ابنها، وعنوان فخرها، وسرّ رفعتها بين القرى، فمنه تعلّمت أن الفخر لا يُستعار، بل يُغرس في التربة، ويسقى بالصدق والوفاء.
نشأ عثمان في أحضانها الوادعة، بين حقولها التي تعرف العرق والرجاء، ومشى في دروبها الطاهرة حافي القلب لا يعرف الغرور، ، ومشى في طرقاتها الطيبة التراب، تلك الطرق التي حفظت خطاه يوم كان طالباً يحمل دفاتره في يد، وأحلامه في اليد الأخرى. لم يكن يوماً بمعزل عن أهلها، شاركهم أفراحهم وأتراحهم، ووقف معهم في الميدان لاعباً مميزاً لفريقها، يركل الكرة كما يركل الغيم الحنين نحو الأرض. ومنذ صباه، بدت عليه سمات القيادة، فجمع بين الجدّ واللين، وبين الطموح والتواضع، حتى غدا رجلاً من طينةٍ نادرة ، ينظر إلى الغد بعينٍ صافية لا ترى سوى العمل والنجاح. كان من أولئك الذين يتكئ فيهم الطموح على التواضع، وتلتقي فيهم الصلابة بالعذوبة، فانبثق منه منذ فجر شبابه وعدٌ بالتميّز والقيادة.
وما أن شبّ حتى اتسعت خطاه على درب المجد، فكان القانون مجاله، والسياسة ميدانه، والوطن همّه الذي لا يغيب. فغدا محامياً نزيهاً، ثم نائباً برلمانياً منتخباً، في قاعة البرلمان، كان صوته صادقاً لا يعرف الزيف، وحرصه على الوطن كبيراً لا تحدّه المصالح، فكان للوطن كله، رجل وعيٍ وموقفٍ ونزاهة، فهو رجل دولةٍ حكيماً، ووزيراً جمع بين الوعي والمسؤولية في تجربةٍ ذاتيةٍ نزيهة، جعلت الناس يرونه كما هو: رجل الصدق والرأي والموقف، لا يساوم على وطنٍ ولا يلين أمام حقٍّ.
لكن عثمان، رغم المناصب، ظلَّ ابن القرية الذي لم تغيّره الأضواء؛ يعود إليها كلما سنحت له الفرصة، يشارك أهلها ويواسي فقيرها ويشدّ على أيدي شبابها، حتى صار وجوده بينهم عنواناً للعطاء ووجهاً للوفاء. ولم تكن خدمته لهم قولاً فحسب، بل فعلاً باقياً، حين كان سبباً في أن يُشق الطريق المعبد بالأسفلت الذي ربط القرية بالمدينة، فصار ذلك الطريق أثراً من آثاره الخالدة، يشهد له كل عابرٍ وكل جيل، ليكون ذلك الطريق أثراً خالداً من آثاره، وستمشي عليه أجيالٌ لم تَرَه، لكنها ستشعر بفضله كما يُحسّ النسيم في غياب الريح.
ظل عثمان ابن القرية الذي لم تفتنه الأضواء، يعود إليها كلما دعته الحنينات القديمة وأيام الصبا، يجالس كبارها، ويمازح صغارها، ويسعى بخطاه في طرقها كما لو لم يغادرها يوماً. لم تغب قريته عن وجدانه، ولم يغب هو عن وجدانها.
ويحكي موسى حمزة ــ أحد المقرّبين إليه ــ أنه لم يكن يشعر بالقلق أو التوتر عندما يزوره عثمان عمر الشريف في بيته، رغم أنه وزير وله منصب رفيع، فمعه يشعر بالراحة والطمأنينة كأنهما بين أهلهما. كل شيء عند عثمان عادي وبسيط، فلا يحتاج موسى لأي تهيؤ أو تكلّف، ولا تخضع تصرفاته لأي بروتوكول، فعثمان يزور ويجلس ويحادث كما يفعل أي إنسان طبيعي، بما يعكس تواضعه وصدقه ونقاء قلبه.
أما إذا جاءه أي زائر آخر من أبناء القرية، مهما كان بسيطاً، فقد يملأه التوتر والقلق، إذ يسعى موسى حمزة لأن يكون على قدر الضيافة، وألا يقصر في حقه، أو يُحدث أي إحراج. وهذا يبرز ــ بشهادة موسى حمزة ــ مقدار التوازن الذي كان يحمله عثمان عمر بين مقامه الرفيع وبين بساطة إنسانيته، وبين قدر المسؤولية وبين وفاءه وحنانه للناس.
لذا حين جاءت اللحظة التي احتفت القرية به فيها وزيراً، كانت الفرحة في وجوه الناس كأنهم يحتفلون بأنفسهم، فقد رأوا في مجده امتداداً لمجدهم، وفي رفعته صورةً من كدّهم وصبرهم.
ويمضي الزمن وتمضي الشخوص، وتبقى الآثار شاهدةً على الذين مرّوا ولم يغيبوا.
الآن، كأن القرية كلَّها تُرهف السمع لصدى دندنته القديمة، وهو يمسك بالجرَّاية للزراعة في الحواشة، يفلح الأرض كما يفلح القلب بالحنين، يردد بصوته الشجيّ رائعة النعام آدم:(الزول الوسيم في طبعو دايماً هادي، من أوصافو قول اسكرني هات يا شادي).
كأن النسيم ما زال يحمل نغمته تلك، وكأن كل سنبلةٍ في الحقل ما زالت تميل على إيقاع صوته، وكل طيرٍ في السماء يشاركه الغناء. فما من مكانٍ في القرية إلا وقد مرَّ به صوته ذات صباح، يبعث في الأشياء روحاً من البهجة والصفاء. حتى اليوم، إذا أصغيتُ جيدًا إلى رفيف الأشجار أو خرير المياه من الجداول، خُيّل إليَّ أن اللحن لم ينقطع بعد، وأن عثمان ما زال هناك، في الحواشة، يبتسم للدنيا وهو يغني لها.
ثم كانت الحرب… تلك التي لا تبقي من الفرح إلا رماده، ولا من الأوطان إلا وجعها. حين سقطت مدني في يد المليشيا، عاد عثمان إلى قريته التي أحبها حبّاً صامتاً عميقاً، كما يعود الغصن إلى جذره حين تهبّ عليه العاصفة. بقي بين أهله حتى وهن الجسد، فانتقل إلى القضارف طلباً للعلاج، وهناك أسلم الروح لبارئها. مات بعيداً عن قريته، بعيداً عن حواشاتها وترابها وأهلها الذين تمنّوا لو شيّعوه على الأكف لا على الذكرى. دُفن هناك، في ترابٍ غريبٍ عليه، لكنه أقرب ما يكون إلى السماء التي تشهد صدقه وعطائه.
لقد رحل عثمان، لكن مثله لا يُغيبهم الموت، لأن الذين يهبون أنفسهم لغيرهم يخلّدهم البذل، ويورق بهم الثرى. عاش زاهداً في الدنيا، محبّاً لرسول الله وآل بيته، لا يبيت وفي يده مالٌ للغد، إذ يرى أن نصيب الغد لغيره من المحتاجين اليوم. كان قلبه موصولاً بالله، ولسانه رطباً بالمحبة، والذكر، ويده ممتدة لا تعرف المنّ ولا العطاء المشروط.
لم يطلب من الدنيا إلا أن يُحبّ الناس ويخدمهم، فكان كما يُقال: كبيراً في تواضعه، عظيماً في بساطته، خالداً في إنسانيته.
لقد مضى عثمان عمر الشريف، لكن سيرته لا تمضي، ومجده لا يُطوى. ترك وراءه ما يشبه الخلود: آثاراً من خيرٍ، وطرقاتٍ من نور، وذكرياتٍ تحنو عليها القرية كما تحنو الأم على طفلها الأول. ما من بيتٍ فيها إلا ويحمل له حكاية، وما من قلبٍ إلا وفيه نبضةٌ من حبه، وما من مجلسٍ إلا ويُذكر فيه اسمه مقروناً بالاحترام والدعاء.
لقد كان رجلًا من معدنٍ نادر، جمع بين الحكمة والسياسة، وبين التواضع والبساطة، وبين علوِّ المنصب وعمق الإنسانية. خدم وطنه الكبير بعقله وضميره، وخدم وطنه الصغير ــ قريته ــ بقلبه ويده، حتى غدا صلةً بين التراب والمجد، وبين الجذور والسماء.
واليوم، حين يذكره الناس في القرية، لا يذكرونه بصفته وزيراً ولا نائباً، بل يذكرونه بصفته (عثمانهم)، ذاك الذي لم يتغيّر حين علت قامته، ولم يتبدّل حين اقترب من الضوء. يذكرونه في دعائهم، وفي أحاديثهم، وفي الطريق الذي يمرّ من قريتهم إلى مدني، كأنّ كل حجرٍ فيه يروي فضله، وكل ظلٍّ على جانبيه يذكر اسمه.
وإن كان القدر قد شاء أن يُدفن بعيداً عن تراب قريته، فإن القلوب قد أقامت له مقاماً من الوفاء لا يزول، ومزاراً من الذكرى لا يبهت. سيظل اسمه محفوراً في وجدان الناس، وستبقى القرية مدينةً له بالحب، راغبةً في تكريمه بما يليق برجلٍ لم يكن عابراً في حياتها، بل جزءاً من نسيجها وضميرها، فهو ابن القرية البار، الذي حملها في قلبه كما يحمل المؤمن سكينته في الصلاة، فحق للقرية تفخر به، وتضعه في صدر مفاخرها، وتسمو به كما يسمو الغصن حين يلامس أول ضوء للفجر.
سلامٌ على عثمان يوم عرفته القرية، ويوم سار في طرقاتها، ويوم غاب عنها جسداً ليبقى فيها روحاً وذكرى. سلامٌ عليه يوم أحبّ فأخلص، ويوم خدم فصدق، ويوم ودّع فترك خلفه طريقاً من نورٍ ووفاءٍ وأثرٍ لا يزول.
فقد رحل الرجل الذي صدق في القول والعهد، وترك لنا من بعده سيرةً تُتلى كصلاةٍ في وجدان القرية، تُذكّرنا أن المجد لا يُنال بالجاه، بل بالبذل، وأن العظمة لا تُصنع في المكاتب، بل في القلوب التي تخفق بحبّ الناس والوطن.
سلامٌ على روحه الوضيئة، وسلامٌ على سيرته التي ما انطفأت، وسلامٌ على رجلٍ عاش كبيراً، ومات كبيراً، وبقي أكبر من الغياب.
عروة علي موسى
فصل من رواية أجراس الغنم



