أخر الأخبار

20 نوفمبر 2024… فاجعة البشاقرة غرب

٢٠ نوفمبر ٢٠٢٤… فاجعة البشاقرة غرب

بقلم: قذافي محمد أحمد المنصور

يشكّل يوم العشرين من نوفمبر ٢٠٢٤م إحدى أقسى الصفحات وأشدّها إيلامًا في تاريخ أهلنا بالبشاقرة غرب؛ يومٌ لم يكن مجرد حادث طارئ، بل كان فصلًا كاملًا من الألم الإنساني والانتهاك الهمجي والممنهج لكرامة المدنيين الآمنين.
فما جرى لم يكن مواجهة عسكرية، ولا اشتباكًا بين طرفين، بل كان اعتداءً سافرًا على قرية مسالمة؛ قريةٍ لم يعرف أهلها السلاح يومًا، ولم يقابلوا الآخرين إلا بالكرم وحسن الوفادة والبِشر.

البشاقرة غرب… بلد العلم والكرم والتعايش

تقع قريتنا البشاقرة غرب في شمال الجزيرة بمحافظة الكاملين، بين ضفة النيل الأزرق الذي يشبه أهلها في صفات الكرم والعطاء، وبين طريق الخرطوم–مدني الذي كان يواجه فيه سالكوه مشقة المرور وقت الإفطار في رمضان بسبب *“ارتكازات*” أهالي القرية…ارتكازات للإكرام لا للإيذاء، ولحسن الضيافة لا لنهب المارة أو ترويعهم.

عاش أهلنا في تواددٍ وإخاء وتلاحم مع بعضهم وكل القادمين إلى المنطقة، بمن فيهم الذين دفعتهم المجاعات والنزاعات لترك ديارهم منذ عشرات السنين. فتح لهم أهل القرية القلوب قبل البيوت، لكن – للأسف – تحوّل بعض هؤلاء، ومعهم قلة من ضعاف النفوس من أبناء القرية، إلى مصادر خطر وتواطؤ أثناء الحرب.

مع اشتعال القتال في الخرطوم وتمدد المليشيا في مدن وقرى الجزيرة، بقيت قريتنا في البداية بعيدة عن خطوط التماس، مما جعل أهلها – بطبيعتهم السمحة – يظنون أن الخطر أبعد من أن يبلغهم…
لكن انهيار الوضع الأمني واقتراب التمرد من القرى المجاورة جعل البشاقرة غرب هدفًا سهلًا، بعد سلسلة من عمليات التسلل والنهب التي مهّدت للهجوم الواسع.

تفاصيل الاقتحام… حين دخل الخوف كل بيت

في صباح ذلك اليوم المشؤوم، اجتاح أفراد المليشيا المتمردة القرية بأشكالهم المتوحشة وصياحهم المخيف، وانتشروا كالنار في الهشيم داخل الحارات والمنازل، مستغلين غياب أي وجود أمني رسمي، وضعف إمكانات الاهالي الأمنية. وشملت الانتهاكات:
1. اقتحام المنازل عنوةً وطرد الأهالي تحت تهديد السلاح.
2. تنفيذ عمليات قتل مباشرة بحق ثلاثة من خيرة شباب القرية فارتقوا شهداء: الاخوين / برعي الصديق وأبوعبيدة الحلاوي، وابن خالي المستشار / صبري التهامي والذي لم يكتفوا بقتله، بل منعوا الشباب والاهل من الرجوع للقرية لستر جثمانه فلم يتمكنوا من دفنه الا بعد اسبوع كاااامل من ذلك اليوم المشؤوم.
لقد قُتل هؤلاء جميعًا ومن سبقهم غدرًا وبدمٍ بارد، في جريمة تتجاوز حدود الإنسانية والقانون.
3. اعتداءات بالضرب والإهانة والتعذيب طالت الرجال والنساء.
4. تهجير قسري شامل، اضطر فيه الأهالي إلى الهرب سيرًا على الأقدام نحو القرى المجاورة والبعيدة، رغم وجود كبار السن والمرضى الذين كان بعضهم لا يستطيع مغادرة بيته أصلًا.
5. نهب شامل للممتلكات من أموال، هواتف، اجهزة وأثاث، في عملية إفقار ممنهج لم يسبق لها مثيل.

تبقى هذه الحادثة صفحة إضافية في سجل المليشيا المتمردة الأسود، ودليلًا على نهجها الذي يستهدف المدنيين عمدًا وينشر الرعب والخراب.

القرية بعد الهجوم… صمت البيوت وكبرياء من تبقى

بعد موجات النزوح، أصبحت قريتنا شبه خالية؛ إذ غادر معظم أهلها تحت وطأة الخوف والتهديد، ولم يبقَ سوى نفرٍ قليل من شبابها الشجعان الذين رفضوا التخلي عن قريتهم. وقف هؤلاء، رغم شدة الخطر، يحرسون البيوت ويحمون ما تبقى من ممتلكات الأهل، مثبتين أن الرجولة موقف، وأن الوفاء ليس كلمة.
لهم منا التحية الواجبة، فهم خط الدفاع الأخير، وحراس الذاكرة، والذين سجّلوا بأفعالهم صفحة مشرّفة في تاريخ القرية.

المهاجر… بين المواساة والمأساة

نزح أهلنا إلى التكينة الصمود والقلقالة وعديد البشاقرة والتكيلات وعد بابكر وغيرها، فوجدوا استقبالًا كريمًا من أهلهم في تلك المناطق، ثم تفرّقوا لاحقًا نحو أماكن أكثر أمنًا داخل السودان وخارجه، بما في ذلك نهر النيل ومدن أخرى بعيدة لم يكن جلهم يتخيل يومًا أنه سيصل إليها.

كان للخيرين والمغتربين من أبناء القرية دور فعال في تخفيف المأساة حيث قدموا المساعدات العاجلة من مال لتوفير الغذاء والدواء.
في مدينة شندي تحديدًا، استقبل شبابنا هناك عددًا كبيرًا من اهلنا النازحين، ورغم ضيق الإمكانيات وفّروا لهم المأكل والمشرب والمأوى المؤقت إلى حين تحركهم لوجهاتهم المقصودة.
ومع كل ذلك، تواصلت المأساة خارج حدود القرية؛ إذ توفي بعض أهلنا في الغربة بعد أن تمكنت الأمراضُ من اجسادَهم المنهكة من مشقة النزوح والترحال.، وزادتهم جراحهم النفسية ألمًا فوق ألم نتيجة الذل والقهر الذي رأوه من المتمردين.

الآثار الاجتماعية والإنسانية

خلّفت الفاجعة آثارًا عميقة على مجتمع القرية، من أبرزها:

* تفكك الأسر وتشتتها في الأيام الأولى، إذ لم تمنح المليشيا الأسر فرصةً للتجمع والتحرك معاُ.

* غياب التواصل بسبب نهب الهواتف، وقد بذل بعض شبابنا جهوداً كبيرةً لتحديد أماكن المفقودين المشتتين.
* انتشار الفقر والجوع نتيجة نهب وشفشفة الأموال والمؤن داخل البيوت وعلى طرق النزوح.
* اضطرابات نفسية لدى البعض بسبب ما راؤه من فظائع
رسخت في اذهانهم ذكرى مؤلمة ومروعة ستظل محفورة في وجدان القرية لأجيال.

دعاء وخاتمة

نسأل الله أن يتقبل شهداءنا قبولًا حسنًا، وأن يُلهم أسرَهم وذويهم الصبر والسلوان، وأن يخفف على أهلنا، ويعوضهم خيرًا ويجبر كسرهم، وأن ينتقم من الظالمين ومن أعانهم، وأن يمكن قواتنا المسلحة من استعادة الأمن وتطهير كل بقعة دنستها أيادي المليشيا، حتى تنعم بلادنا بالأمن والاستقرار.

إن ما من إنتهاكات جرى في قريتنا، كما في غيرها من القرى والمدن، ستظل وثائق حيّة شاهدة على الألم والصمود، وعلى حقٍ مغتصب سيعود، وعلى كرامة شعب لا تنكسر مهما طال ليل المِحَن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

12 − 3 =

زر الذهاب إلى الأعلى