المستقبل السياسي للسودان: بين صراع القوى وتقاطعات الجغرافيا والمصالح الدولية

بقلم المهندس : نادر ذكي الشريف

يشهد السودان واحدة من أكثر المراحل السياسية تعقيدًا في تاريخه الحديث، حيث تتشابك فيه خطوط الصراع بين المكوّن العسكري والحركات المسلحة والأحزاب السياسية، بينما تدور في خلفية المشهد مصالح إقليمية ودولية تتنافس على موقع البلاد وثرواتها الهائلة. وفي ظل هذا الخليط المضطرب، تبرز أسئلة ملحّة حول مستقبل الحكم وشكل الدولة: من يمتلك القرار؟ وكيف يمكن الوصول إلى انتقال مدني فعلي في بلد ترتّبت على أكتافه عقود من الصراعات والتجاذبات؟

المكوّن العسكري: لاعب محوري رغم التحديات

لا يزال الجيش، رغم الخلافات والانقسامات التي عصفت به خلال السنوات الأخيرة، الفاعل الأكثر تأثيرًا في المشهد السياسي. فالمؤسسة العسكرية — بحكم تاريخها وارتباطها ببنية الدولة — تحتفظ بقدر كبير من السيطرة، وهو ما يجعل فكرة انتقال السلطة إلى المدنيين بشكل كامل أمرًا يحتاج الى ثقة بيين المؤسسة العسكرية والمكونات السياسية .

وفي المقابل، يعتمد العسكريون على واقع التفكك السياسي وضعف الأحزاب ليظلوا الطرف الأقوى، وسط حضور فصائل مسلحة وجيوش موازية بعضها يتمتع بنفوذ اقتصادي واجتماعي كبير، ما يزيد من صعوبة إعادة هيكلة الدولة.

الحركات المسلحة: بين مطالب الهامش وتحديات المركز

تُعد الحركات المسلحة واحدة من أبرز عناصر المعادلة السياسية، خاصة تلك التي وقّعت على اتفاقية جوبا للسلام. فالكثير من بنود الاتفاقية لم يُفعّل بعد، ما خلق حالة “نصف تسوية” تُبقي مناطق واسعة شبه مستقلة أو ذات نفوذ محلي قوي.

وتطالب هذه الحركات بإصلاحات جوهرية تشمل الحكم الذاتي، وتقاسم الموارد، والاعتراف بالخصوصيات الثقافية والعرقية للمناطق المهمّشة. وبينما قد تُسهم هذه المطالب في بناء دولة أكثر عدالة، فإن تطبيقها بشكل غير متوازن قد يدفع نحو مزيد من التشظي.

الأحزاب السياسية: حضور باهت ونخب تحاول العودة

تعاني الأحزاب السودانية من ضعف مقومات التنظيم وفقدان الثقة الشعبية، خصوصًا لدى الأجيال الشابة. ورغم ذلك، تظل هذه الأحزاب جزءًا مهمًا من معادلة الحكم بسبب خبرتها الطويلة ومقبوليتها لدى المجتمع الدولي.

ويزيد المشهد تعقيدًا مع محاولات النخب القديمة — بما في ذلك الإسلاميون الذين كانوا جزءًا من النظام السابق — إعادة ترتيب صفوفهم واغتنام الفراغ الذي خلّفته الحرب والانقسامات.

الضغوط الإقليمية والدولية: السودان في قلب الجغرافيا والمصالح

يحتل السودان موقعًا جيو–استراتيجيًا بالغ الأهمية:

ساحل طويل على البحر الأحمر

موقع محوري على نهر النيل

موارد طبيعية ضخمة تشمل الذهب، البترول، اليورانيوم، الحديد، النحاس، والكروم والمعادن الاخري

مساحات زراعية تُعد من الأكبر في المنطقة

هذه العناصر جعلت السودان ساحة تنافس بين قوى دولية وإقليمية، بعضها يسعى إلى الاستقرار للحفاظ على مصالحه، وبعضها الآخر يرى في الانقسام فرصة لزيادة النفوذ والسيطرة على الموارد.
وقد طرحت عدة دول مبادرات وخارطة طريق للسلام، لكن تباين المصالح يجعل الوصول إلى اتفاق مستدام مهمة شديدة الصعوبة.

سيناريوهات محتملة للمستقبل السياسي

1. تسوية سياسية وهُدنة تؤدي إلى انتقال مدني محدود

من المتوقع أن تتوصل بعض القوى العسكرية والمدنية إلى اتفاق مرحلي، يتيح تشكيل حكومة انتقالية غير الحاليه بقيادة شخصية محايدة تملك قبولًا واسعًا، مع بقاء نفوذ كبير للمؤسسة العسكرية والحركات المسلحة.
سيكون هذا الانتقال خطوة إلى الأمام، لكنه لن يحقق تحولًا ديمقراطيًا كاملًا.

2. إحياء اتفاقية جوبا وتوسيع الحكم الذاتي

قد يؤدي تفعيل الاتفاقية بشكل فعلي إلى منح بعض المناطق حكمًا ذاتيًا أو صلاحيات واسعة، مما يعكس خصوصيات الهامش، لكنه يجب ان ينفذ كاملا وعلى كل طرف ان يسارع فى التطبيق باليات وقوانين واضحه لا لبس فيها.

3. صعود حكومة مدنية ذات دعم إقليمي ودولي

إذا نجحت القوى المدنية في الالتفاف حول مشروع موحّد، فقد تشهد البلاد حكومة مدنية أكثر قوة، بدعم دول الجوار والمجتمع الدولي.
لكن هذا السيناريو يتطلب إصلاحات عميقة ودستورًا جديدًا يحدد بدقة العلاقة بين المدنيين والعسكريين، وهو أمر غير متاح في المدى القريب.

4. تعاظم النفوذ الخارجي في ظل ضعف الدولة

في حال استمرار الانقسامات وانهيار المؤسسات، قد تتعمّق التدخلات الدولية لتتحول البلاد إلى ساحة تنافس جيو–استراتيجي مفتوحة، وهو السيناريو الأكثر خطورة، إذ قد يطيل أمد الحرب ويزيد من تعقيد العملية السياسية.

ركائز ضرورية لأي مستقبل مستدام

بناء مؤسسات قوية

قضاء مستقل، برلمان فاعل، أجهزة رقابية…
بدون مؤسسات لا يمكن لأي تحول سياسي أن يصمد.

مصالحة وطنية شاملة

لا مستقبل للسودان دون معالجة جذور الصراعات القبلية والعرقية، وتبني مشروع وطني يتجاوز الانقسامات.

إصلاح اقتصادي عميق

الأزمة الاقتصادية — من التضخم إلى الديون — تشكل أكبر تهديد لأي حكومة مقبلة. فلا استقرار سياسي دون اقتصاد يُعيد الثقة للمواطن ويجذب الاستثمار.

توحيد السلاح تحت سلطة الدولة

يبقى وجود السلاح خارج إطار القوات النظامية أكبر عقبة أمام بناء دولة مستقرة.

توقعات واقعية للمستقبل القريب

على مدى السنوات الثلاث إلى الخمس القادمة، يبدو أن السودان يتجه نحو تسوية سياسية صعبة تؤدي إلى حكومة مدنية–عسكرية هجينة.
ستكون هذه الخطوة — رغم محدوديتها — بداية لمسار طويل لإعادة بناء الدولة، شرط أن تتوقف التدخلات الخارجية السلبية وأن يتوافق السودانيون على مشروع وطني جامع.


مهندس نادر ذكي الشريف

Exit mobile version