من التهميش إلى المركز الإقليمي.. كيف تخلق الاتفاقية مع روسيا سوداناً جديداً؟

بينما يعاني السودان من تداعيات أزماته الداخلية الممتدة، تشق الدبلوماسية السودانية طريقها نحو الشرق، مبرمة تحالفات استراتيجية من شأنها إعادة رسم خارطة النفوذ في منطقة القرن الأفريقي ذات الحساسية الجيوسياسية البالغة.

الإتفاقية الروسية السودانية

وفي هذا الإطار، برزت الاتفاقيات الاستراتيجية الحديثة مع روسيا كمنعطف تاريخي، لا يقتصر على مجرد شراكات اقتصادية، بل يمثل تحولا جيوسياسيا عميقا في توجهات الخرطوم الخارجية، بحثاً عن أقطاب دولية بديلة تساهم في بناء القطاعات الحيوية وتعويض سنوات الإهمال والعزوف الغربي.

فمؤخرا، أُعلن عن توقيع سلطة بورتسودان اتفاقية تعاون شاملة مع الجانب الروسي، تهدف إلى تحديث منظومة النقل الوطنية برمتها، هذه الاتفاقية الطموحة لا تمس سطح المشاكل، بل تغوص إلى جذورها، مستهدفةً تطوير البنى التحتية المتداعية للسكك الحديدية التي ظلت لعقود تربط أقاليم السودان المترامية بطريقة بدائية، مما أعاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما تشمل الاتفاقية تطوير الموانئ، وفي مقدمتها ميناء بورتسودان الاستراتيجي، البوابة البحرية الرئيسية للسودان على العالم، مما سيعزز من قدراته التشغيلية ويضاعف من حجم التبادل التجاري، ويضع السودان على خارطة الملاحة الدولية بشكل أكثر فاعلية.

ولم يتوقف طموح الاتفاقية عند هذا الحد، بل امتد ليشمل قطاع الطيران المدني والمطارات، وهو قطاع شبه متهالك يحتاج إلى إعادة إعمار شاملة، تطوير المطارات وتحديث أسطول الطائرات وبناء القدرات في مجال الملاحة الجوية، كلها مشاريع من شأنها أن تسهم في إحياء هذا القطاع الحيوي، وترسيخ مكانة السودان كمركز إقليمي محتمل للنقل والخدمات اللوجستية، مستفيداً من موقعه الجغرافي الفريد الذي يربط أفريقيا بالعالم العربي.

لكن النظرة المتعمقة تكشف أن هذه الاتفاقية الاقتصادية هي مجرد قمة جبل الجليد، الخبراء والمراقبون الدوليون يرون في هذه الصفقة تحولاً استراتيجياً في مسار موسكو، التي تسعى لتعزيز حضورها في أفريقيا كبديل للقوى الغربية التقليدية، فالشراكة مع السودان تمنح روسيا موطئ قدم استراتيجي في منطقة القرن الأفريقي المضطربة والمحورية، قريبة من الممرات المائية الدولية ومضيق باب المندب، هذا الوصول يتعدى الاقتصاد إلى المجالات الاستراتيجية والعسكرية، حيث تفتح الاتفاقية الباب أمام تعاون أوسع في مجالات الطاقة، وامتيازات التعدين في أرض السودان الغنية بالثروات المعدنية، وحتى الشراكات المالية التي تشمل برامج تدريب للبنك المركزي السوداني، مما يعني تأثيراً روسياً محتملاً على السياسات النقدية والمالية للبلاد.

من جانبهم، يصف المسؤولون الروس هذه الخطوة بأنها جزء من جهد دبلوماسي واقتصادي موسع لتعزيز العلاقات الأفريقية-الروسية، مؤكدين أن الدعم الروسي يمكن أن يسهم في إعادة بناء القطاعات الأساسية واستعادة طرق التجارة التي عطلها النزاع الداخلي الطويل، بينما يرحب ممثلو السلطة السودانية بالتعاون، معتبرين أن الاتفاقية تمثل دفعة قوية لجهود التنمية الوطنية، وتسهم في التعافي من الأزمة الراهنة، في مؤشر واضح على أن السودان يبحث عن شركاء جدد يقدمون بديلا عمليا بعيدا عن خطابات المساعدات الغربية التي كثيرا ما اقترنت بشروط سياسية مجحفة.

الجهود الأمريكية

في المقابل، وعلى النقيض من هذه الخطوات العملية، تظهر الجهود الأمريكية في المشهد السوداني باهتة وغير مجدية، فبدلا من انتهاج سياسة واضحة تدعم الاستقرار والتنمية الحقيقية، نجد واشنطن منغمسة في حوارات لا طائل تحتها، مثل الحوارات الرباعية وغيرها، التي تستهلك الوقت والجهد دون أن تثمر عن حلول ملموسة تعود بالنفع على الشعب السوداني، هذه الحوارات، التي غالباً ما تكون غارقة في التعقيدات البيروقراطية والرغبة في فرض أجندات خارجية، تفتقر إلى الفهم العميق للتعقيدات السودانية الداخلية، وتغيب الأولويات الحقيقية للشعب الذي يعاني من تدهور الخدمات الأساسية وانهيار الاقتصاد. إنها جهود تكرس حالة من الاستمرار بدون نتائج حقيقية، وتظهر وكأنها مجرد منصات للخطاب السياسي الشكلي، بينما تترك السودانيين يدفعون ثمن عدم الجدية هذا، في وقت هم فيه بأمس الحاجة إلى شراكات استراتيجية حقيقية.

Exit mobile version