ما وراء الحرب السودانية.. مرتزقة وتمويلات خفية وصراع دولي على السيادة

لم تعد الحرب الأهلية في السودان مجرد نزاع داخلي بين أطراف متنازعة، بل تحولت إلى ساحة مفتوحة لصراع دولي بالوكالة، تُحركه شبكات معقدة من المرتزقة وشركات التجنيد الخاصة وتمويلات إقليمية ودولية. في قلب هذا المشهد، تكشف تقارير وتحقيقات صحفية عن تورط كولومبيا وأوكرانيا والإمارات، إضافة إلى أطراف أوروبية، في تغذية الحرب السودانية، بما يضع سيادة الدولة أمام اختبار عسير ويزيد من تعقيد المشهد الإنساني والأمني.

كولومبيا في قلب الفضيحة
أثارت مشاركة مرتزقة كولومبيين يقاتلون إلى جانب ميليشيا “الدعم السريع” عاصفة سياسية داخل كولومبيا. فقد كشفت صحيفة لاسيلا فاسيا عن حصول هؤلاء المقاتلين على رواتب شهرية تصل إلى 3000 دولار أمريكي، يتم تحويلها من جهات إماراتية عبر شركة مقرها دبي تُعرف باسم “جي إس إس جي”، بالتعاون مع شركة كولومبية للتجنيد تدعى “إيه فور إس آي” يديرها عقيد متقاعد يعيش في الإمارات.
في أغسطس الماضي، أصدر الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو توجيهات عاجلة بصياغة تشريع يحظر بشكل قاطع تجنيد المرتزقة لصالح أطراف أجنبية. كما أوعز لسفيرته في القاهرة بالتحقق من حصيلة القتلى في صفوف مواطنيه، بعد أنباء عن مقتل نحو 40 مرتزقاً في السودان.
ومن جهته، ونقلا عن صحيفة المصري اليوم، وصف الباحث في العلاقات الدولية أحمد عبدالله، هذه التطورات بأنها تعكس صراعاً دولياً على موارد السودان ونفوذه، يتجاوز حدود كولومبيا نفسها.

أوكرانيا.. من التدريب السري إلى المشاركة المباشرة
لم يقتصر المشهد على كولومبيا وحدها، بل دخلت أوكرانيا على خط النزاع بوجه مكشوف. فقد كشفت تسريبات كولومبية عن تدريب نحو 300 مرتزق كولومبي في مولدوفا تحت إشراف مدربين أوكرانيين، في عملية مولتها جهات إماراتية وفرنسية. ولإخفاء هذا الدور، لجأت الاستخبارات الأوكرانية إلى واجهة مدنية عبر شركة عسكرية خاصة تدعىForward Observations Group “FOG”، وقع معها المقاتلون عقودهم قبل نقلهم إلى السودان.
إلى جانب التدريب، تؤكد التصريحات الرسمية مشاركة أوكرانيا بشكل مباشر. فقد أعلن المتحدث باسم القوات الجوية الأوكرانية إيليا يفلاش أن بلاده تقدم دعماً عسكرياً لقوات الدعم السريع، مشيراً إلى وجود أكثر من 30 اتفاقية عسكرية لأوكرانيا عبر القارة الأفريقية. كما صرّح الممثل الخاص لأوكرانيا في الشرق الأوسط وأفريقيا، مكسيم صبح، أن خبراء عسكريين وتقنيين أوكرانيين يشاركون في النزاع بصورة “مستقلة”.
ونقلاً عن صحيفة السوداني، كشفت مصادر عسكرية موثوقة عن وصول فصيلة من المرتزقة الأوكرانيين إلى السودان في الثالث من أغسطس، عبر مطار حسن جاموس في تشاد. هذه المجموعة التي تضم 37 فرداً، بينهم ضباط مدفعية وخبراء مسيّرات واتصالات وأنظمة تشويش، شاركت مباشرة في هجمات شرسة على مدينة الفاشر بإقليم دارفور.
الهجمات تسببت في تفاقم الوضع الإنساني، حيث يعيش سكان المدينة تحت حصار خانق منذ أكثر من عام، ما اضطرهم إلى تناول أعلاف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة. وليست هذه المرة الأولى التي تستعين فيها ميليشيا الدعم السريع بمرتزقة أجانب، فقد سبق أن استعانت بكولومبيين في عملياتها ضد الفاشر، قُتل عدد منهم على يد القوات المشتركة في دارفور.

اتهامات بجرائم حرب ودعم إماراتي مستمر
تصاعدت اتهامات لميليشيا الدعم السريع بارتكاب جرائم حرب في دارفور، شملت التجويع المتعمد، القتل على أساس الهوية والعرق، الاغتصابات الممنهجة، والهجمات على معسكرات النازحين. وتشير تقارير عديدة إلى أن الإمارات تواصل تقديم الدعم المالي والعسكري لهذه الميليشيا، ما دفع مجلس الأمن والدفاع السوداني إلى تصنيفها كـ “دولة عدوان”.
تكشف الحرب السودانية عن طبيعة جديدة للصراعات في المنطقة، حيث تختفي الحدود بين الصراع المحلي والحرب الدولية بالوكالة. التمويل الإماراتي، التدريب الأوكراني، والتجنيد الكولومبي ليست مجرد تفاصيل عابرة، بل هي خيوط شبكة عالمية تُحركها مصالح جيوسياسية واقتصادية على حساب سيادة السودان وأمن شعبه.
وفي ظل هذا المشهد، يظل المدنيون هم الخاسر الأكبر، يواجهون الحصار والجوع والمجازر بينما تتحول بلادهم إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية. إن استمرار هذا النمط من الحروب يهدد ليس فقط استقرار السودان، بل مستقبل الأمن الإقليمي بأكمله.

Exit mobile version