
بقلم: د. عبدالناصر سلم حامد – باحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب، ومدير برنامج شرق إفريقيا والسودان بمركز فوكس للأبحاث (السويد)
في الفاشر، لم يعد الموت حدثًا عابرًا. المدينة المحاصرة منذ شهور تعيش على وقع دفن جماعي، وصرخات أمهات يبحثن عن كسرة خبز لأطفال يذبلون أمام أعينهن. وبحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في 15 أغسطس 2025، تجاوز عدد القتلى 150 ألفًا منذ اندلاع الحرب، فيما يعيش نحو 800 ألف مدني تحت حصار خانق بلا غذاء أو دواء. منظمة أطباء بلا حدود أضافت في تقريرها الميداني لشهر يوليو 2025 أن “الهدن السابقة لم تغيّر شيئًا للمدنيين، بل منحت المقاتلين وقتًا لإعادة التموضع.”
وسط هذه الكارثة صدر بيان المجموعة الرباعية – الولايات المتحدة، السعودية، مصر، والإمارات – بدعوة إلى وقف الحرب فورًا، هدنة إنسانية، وانتقال مدني خلال تسعة أشهر. على الورق بدت الدعوة أشبه بمفتاح للحل. لكن على الأرض، في السودان تحديدًا، أثارت جدلًا واسعًا. هل نحن أمام مبادرة لإنقاذ الأرواح، أم محاولة لإنعاش مليشيا ارتكبت كل صنوف الجرائم؟
لا يمكن فهم البيان بمعزل عن مصالح أطرافه. الولايات المتحدة تنظر إلى السودان كجزء من تنافسها مع روسيا، خاصة مع تنامي نفوذ موسكو عبر الذهب وشبكات المرتزقة. السعودية تتابع الحرب بقلق حفاظًا على أمن البحر الأحمر وممرات الطاقة. مصر تراها معركة تمس عمقها الاستراتيجي المباشر. أما الإمارات، فقد وُجهت إليها اتهامات في تقارير أممية وصحفية بتمويل وتسليح الدعم السريع عبر ليبيا وتشاد، رغم نفيها المتكرر، فيما تحاول الظهور بدور الوسيط القادر على الضغط.
الرباعية ترى – من منظورها – أنه لا حل عسكريًا، وأن هدنة إنسانية ضرورية لحماية المدنيين، يليها انتقال مدني سريع يمنع تفكك الدولة. منطق بسيط للوهلة الأولى. لكن هل يصلح هذا المنطق لواقع مثل السودان، حيث البنادق تحدد مصير المدن؟
خذ مثلًا شعار “لا حل عسكريًا”. في أي نزاع آخر قد يبدو عقلانيًا، لكنه في السودان يعني عمليًا منع الجيش من استكمال تقدمه لفك الحصار عن الفاشر. الدعم السريع يسيطر على زالنجي والجنينة منذ 2023، وحوّلهما إلى قواعد عسكرية. فهل من العدل وقف العمليات الآن؟ هنا يستحضر السودانيون مثال اليمن: اتفاق ستوكهولم عام 2018 الذي أوقف تقدم الجيش نحو الحديدة، فاستغله الحوثيون لإعادة التموضع وترسيخ نفوذهم.
أما الحديث عن هدنة إنسانية، فمن السهل أن يُقنع الخارج. لكن ماذا عن الداخل الذي جرّب هدنة جدة عام 2023؟ يومها، استغل الدعم السريع وقف إطلاق النار لتهريب السلاح واستقدام المرتزقة عبر الحدود الليبية والتشادية. المدنيون ظلوا محاصرين كما هم. أليس من حق السودانيين أن يتشككوا اليوم؟
الأدهى أن وقف النار الآن قد يمنح “الحكومة التأسيسية” التي يخطط لها الدعم السريع في دارفور شرعية أمر واقع. أي أن الهدنة قد تتحول إلى بوابة لانفصال فعلي، لا إلى سلام.
نأتي إلى الانتقال المدني خلال تسعة أشهر. فكرة جميلة بلا شك. لكن السؤال الأهم: كيف تُبنى حكومة مدنية بينما مليشيا مسلحة تحاصر الفاشر وتحتل مدنًا كاملة؟
التجربة السودانية نفسها تقدم درسًا صارخًا. اتفاقية نيفاشا للسلام عام 2005 أنهت أطول حرب أهلية في إفريقيا، لكنها لم تُعالج جذور الأزمة، بل قادت في النهاية إلى انفصال جنوب السودان عام 2011. ما بدا حينها اتفاقًا تاريخيًا تحوّل عمليًا إلى وصفة لتقسيم البلاد. واليوم، حين تتحدث الرباعية عن وقف إطلاق نار سريع وانتقال مدني بلا تفكيك للمليشيات، يخشى السودانيون أن يعيدوا إنتاج سيناريو نيفاشا، ولكن هذه المرة في دارفور.
أما بند “حماية المدنيين”، فقد جاء ملتبسًا. إذ ساوى بين الجيش والدعم السريع. أي حماية هذه التي تضع الضحية والجلاد في كفة واحدة؟ الدعم السريع مارس الإبادة والاغتصاب والتجويع كسلاح. الجيش، مهما قيل عنه، يظل المؤسسة الوطنية الوحيدة المتماسكة. أحد الناجين من الجنينة قال لمنظمة حقوقية محلية: “لم نُقتل بالقذائف، بل بالجوع الذي فرضته المليشيا علينا.” فهل يُعقل مساواة من يجوّع شعبًا بمن يقاتل لتحريره؟
المفارقة أن المجتمع الدولي فعّل مبدأ “مسؤولية الحماية” في ليبيا عام 2011، بينما في السودان يكتفي ببيانات صحفية لا توقف مجزرة ولا تحمي طفلًا جائعًا.
البند الخاص باستبعاد الإسلاميين يكشف بدوره أجندات إقليمية. الإسلاميون، شئنا أم أبينا، جزء من التركيبة الاجتماعية والسياسية. كثير منهم يقاتل اليوم إلى جانب الجيش دفاعًا عن الدولة. إقصاؤهم، كما حدث بعد ثورة ديسمبر 2018، أدى إلى فراغ سياسي ساهم في انفجار الأزمة الحالية. القانون الدولي يعاقب الأفراد المرتكبين للجرائم، لا تيارات فكرية كاملة. استبعاد الإسلاميين جملة وتفصيلًا يعني ببساطة تكرار خطأ الماضي.
أما الحديث عن وقف الدعم العسكري الخارجي، فهو مربط الفرس. الجيش يعتمد على موارده الوطنية المحدودة. أما الدعم السريع فبني وجوده كله على أموال وسلاح وذهب يمر عبر شبكات إقليمية. تقرير خبراء الأمم المتحدة لعام 2025 أكد أن المليشيا تعتمد على إمداد خارجي معقّد من السلاح والمرتزقة عبر ليبيا وتشاد. هل يُعقل مساواة جيش وطني بمليشيا تعيش على تمويل الخارج؟
الحقيقة أن الحرب لن تتوقف ما لم تُجفف منابع تمويل الدعم السريع. التمويل هو وقود المليشيا. وبدونه، تنهار بسرعة. هذه ليست شعارات، بل حقيقة يعرفها كل من تابع مسار الحرب منذ بدايتها.
أما التعاون مع الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وإيغاد، فالتجربة لا تبعث على التفاؤل. يوناميد انسحبت من دارفور بعد سنوات من الحضور دون أن توفر أمنًا حقيقيًا. وإيغاد عجزت حتى عن جمع الأطراف السودانية على طاولة واحدة بجدية. فهل نتوقع منها اليوم أن تصنع معجزة؟
الداخل السوداني أوضح من الخارج. الشارع استقبل بيان الرباعية بالرفض. قوى مدنية رأت أنه يساوي بين الجيش والمليشيا. ناشطون اعتبروا أن أي وقف لإطلاق النار قبل تفكيك الدعم السريع مكافأة لمجرمين. وفي معسكرات النزوح، هناك جملة واحدة تتردد: “لن نقبل بعودة المليشيا كما كانت قبل الحرب.”
حتى قوى سياسية دعمت الثورة سابقًا باتت مقتنعة أن الحل الواقعي هو تمكين الجيش من قيادة مرحلة انتقالية، مع إشراك القوى المدنية، لا فرض تسويات خارجية تعيد إنتاج الأزمة. فهل يمكن لأي اتفاق أن ينجح إذا رفضه الشعب نفسه؟
الجيش هنا ليس مجرد طرف في نزاع، بل حامل فكرة الدولة وبقية مؤسساتها. في وقت انهارت فيه الوزارات والشرطة، بقي الجيش القوة الوحيدة التي تحافظ على وحدة البلاد. وعلى عكس الدعم السريع الذي يعيش على المرتزقة والنهب، حافظ الجيش على تماسكه وتصرف ببراغماتية عالية. لذلك، أي انتقال سياسي واقعي لا بد أن يقوده الجيش ويشرف عليه، إلى أن تتهيأ البلاد لانتخابات حرة.
التفاوض مع الدعم السريع؟ لا بأس. لكن على قاعدة واضحة: إخلاء المدن والمرافق العامة فورًا، تسليم السلاح، التجمع في مناطق محددة تحت رقابة الجيش، ثم المحاسبة على الجرائم. غير ذلك مضيعة للوقت. من يظن أن السودانيين سيقبلون عودة المليشيا كما كانت قبل 2023، يتجاهل دماء عشرات الآلاف من الضحايا.
القانون الدولي في صف هذا الطرح. المادة 54 من البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف تحظر استخدام التجويع كسلاح، وهو ما يمارسه الدعم السريع بوضوح في الفاشر. المادة 8 من نظام روما الأساسي تعتبر ذلك جريمة حرب. لكن بدلًا من تفعيل هذه النصوص، يساوي المجتمع الدولي بين جيش وطني ومليشيا متهمة بجرائم ضد الإنسانية. أي عدالة هذه؟
خلاصة الأمر أن بيان الرباعية، رغم ما يرفعه من شعارات إنسانية، لا يقدم حلًا واقعيًا. هو يقيّد الجيش الذي يحقق تقدمًا ميدانيًا، ويمنح الدعم السريع فرصة جديدة، ويقصي الإسلاميين رغم أنهم جزء من النسيج الوطني.
السودان يحتاج إلى مسار مختلف: جيش يقود المرحلة الانتقالية باعتباره حامل الدولة، دمج منضبط للإسلاميين، وتفكيك الدعم السريع كميليشيا غير شرعية. وأي دعوة إلى وقف إطلاق النار بلا هذه الشروط، ليست سوى وصفة لتقسيم السودان.
السلام الحقيقي يبدأ من هنا: لا سلام بلا تجفيف منابع الدعم السريع، ولا استقرار بلا تمكين الجيش من قيادة انتقال وطني شامل. مستقبل السودان لن يُكتب في بيانات الخارج، بل سيصنعه السودانيون، بدماء من يقاتلون في الميدان وبصناديق الاقتراع التي ستعبّر عن إرادة الشعب. وبين البندقية التي تحمي الوطن وصندوق الانتخابات الذي يحدد خياراته، هناك طريق واحد لبناء سودان جديد: طريق يصنعه السودانيون وحدهم، لا الورق الذي يُكتب في العواصم البعيدة