منى أبوزيد تكتب : هناك فرق – الطريق الثالث والأخير..!

.

“هذه الحرب ليست منعطفاً تاريخياً فحسب، بل دلالة فادحة على فشل النخب السياسية السودانية في صياغة مفهوم للحاكمية تحت مظلة ديموقراطية”.. الكاتبة..!

يحضرني اليوم مقال عن شئون وشجون الممارسة السياسية في السودان كتبته قبل نحو عشرين عاماً، كان بعنوان “صناعة الحاكم”، قلتُ فيه إن عشوائية الطَّرح وفوضَوية التلَقِّي وردود الأفعال ذات الزوايا الحادَّة، عيوب تلتقي عندها معظم العقليات السياسية في السودان. فالجذر والمُنْطَلَقْ واحد “إلى حين أظنُّه سيكون طويلاً، إن لم نهرع إلى إعمال النظر في مبادئ تجويد صِناعَة الحاكم، ومن ثم فك ورَتْق قُماشَة المَحكوم”..!

عشرون عاماً مضت على منطلقات وبواعث كتابة هذا المقال، تعاقبت فيها الفصول الطبيعية، و تواترت عبرها المنعطفات السياسية، وقامت ثورة، ثم اندلعت حرب، ولم تتغير حالنا، لأننا – ببساطة – لم نتغير..!

بلوغ تلك الزوايا الحادة أشُدَّها في أثناء هذه الحرب يعني أن السرد السياسي صار ثنائياً لا ثالث له “معك أو عليك، طاهر أو مدان”، بهذا الأسلوب الذي تُحرق فيه الجسور قبل أن تُبنى، تتقاطع مواقق “الحرية والتغيير” مع مواقف “الإسلاميين” في حلقة مفرغة من الأفعال وردودها..!

الحرية والتغيير كانوا مجموعة نشطاء شاءت إرادة الله أن يقوموا بإدارة دولة، دخلوا تجربة حكمها بعقائد ثورية على نحو لا يترك هامشاً للخصم. وكان القضاء على أذرع التمكين هدفاً سياسياً لم يفرقوا خلال سعيهم فيه بين إدارة الحزب وإدارة الدولة..!

وقد وجدت لجنةُ إزالة التمكين نفسها – بدلاً من أن تكون أداةً للعدالة المُنضبطة – ساحةً لتجاوزات كثيرة أنتجت أحقاداً وكوارث أخلاقية “مواطنون حُرموا من محاكمات عادلة، وملفات انتقلت فيها الكلمة من الحياد إلى الحكم الابتدائي”. والنتيجة، تراكمُ الشعور بالظلم لدى من طالهم عسف الإجراءات، وميل طبيعي للرد العنيف، خشيةَ الانقراض السياسي..!

هل توقعت الحرية والتغيير حينها أن يتبخر الإسلاميون؟. هل ظنّت أن جماعات لها جذور اجتماعية وسياسية ضاربة سوف تُمحى من المشهد؟. من تتعرض هويته السياسية والقانونية للطمس سوف يبحث عن كل سبل البقاء..!

معلوم أن الفصائل السياسية إذا لم تُستوعَب في تسويات ذكية، توازن بين المساءلة والاندماج، فإنها سوف تعود بصيغٍ أخرى “مقاومة مسلحة، تحالفات مناطقية، أو حتى سياسات تدميرية تهدف للانتقام الشخصي”. بينما نحن كنا في أعقاب الثورة وأمام مشهد تقول فيه أطراف حاكمة لأطراف مُعارِضة “لا استيعاب لكم في أي تسوية قادمة”..!

بعد أن تحولت الحرية والتغيير إلى تقدم، التي انقسمت بدورها إلى صمود وتأسيس، تجد صمود اليوم نفسها تقف في فضاء البرزخ السياسي، الممتد بين مدينتين “نيالا وبورتسودان”، وبين مناخين اجتماعيين وسياسيين متباينين. وفي كلٍ منهما يعاد إنتاج ذات الزوايا الحادة للسرديات القديمة نفسها، منطق التمرد ضد منطق الشرعية، ومنطق الاستبعاد ضد منطق الإندماج..!

الإسلاميون الذين تحالفوا مع الجيش يتبنون في مواجهة صمود ذات الموقف القديم الذي تبناه الكيان الأم – الذي أنتج صمود – في مواجهتهم، عشية الثورة عليهم. وذات السؤال الذي أنتجه واقع الثورة، بات يعيد نفسه اليوم مع واقع الحرب “هل يتوقع الإسلاميون أن تتبخر صمود؟. هل يظنون أن جماعات لها جذور اجتماعية وسياسية ضاربة سوف تُمحى من المشهد؟. ثم ما الذي قد يفعله هؤلاء – الواقفون في منطقة الأعراف السياسية – لكي يبقوا على قيد الحياة السياسية دون أن يُحرقوا ما تبقى من البلد، في عمليةِ إنقاذٍ ذاتية..!

هنالك طريق ثالث، أخير، لكنه يحتاج إلى بسالة سياسية، وشجاعة وطنية ليست تقليدية “بناء اتفاق على قواعد اللعبة قبل التنافس عليها”، قواعدٌ تقطع الطريق أمام الانتقام وشخصنة المواقف “محاكمات نزيهة، آليات عدالة انتقالية تُوازن بين الحقيقة والمصالحة، برامج استيعاب سياسي تُقنع الخصم بأنه لن يُبعد إلى اللانهاية، وخريطة مساءلة شفافة لا تتحول إلى تصفية حسابات”..!

الدول لا تُبنى بالثأر ولا بالانتقام، بل تُبنى بضبطٍ مؤسسي، واعترافٍ متبادل بحق الآخر في الوجود السياسي، وتُمهِّد طريقها نحو ذلك كله بضبط النفوس السياسية، الأمارة بالثأر والخراب، أولاً..!

إذا أردنا أن نتحرر من لعنة الحروب والكراهية، فعلينا أن نُسائل أنفسنا “هل نُريد أن ننتهي إلى دولةً ثيوقراطية، أو دولة أوتوقراطية، تُدار بهيمنة الأيدولوجيا، أو تُحكم برادع الثأر، أم أننا نريد دولة مؤسسات تُحكم بالقانون..!

الطريق الثالث ليس مُهادناً، لكنه بالغ الصرامة في حماية حقوق الجميع، وهذه القيمة الأخلاقية وحدها قد تُنقذ السودان الحالي من أن يصبح تاريخاً لمستقبل صراع سياسي لا نهاية له!.

munaabuzaid2@gmail.com

Exit mobile version