
بقلم: محمد سعد كامل، رئيس التحرير، وصباح المكّي، نائب رئيس التحرير
(نُشر هذا المقال لأول مرة بالإنجليزية في صحيفة براون لاند نيوز بتاريخ 08 أغسطس 2025. وهذه النسخة العربية مترجَمة بقلم صباح المكّي.)_
بعد عقدين من التعهّد بـ”لن يتكرر أبداً”، تحترق القرى ذاتها، ويُهجَّر الشعب ذاته، ويسير الجناة أنفسهم أحراراً. إن التقاعس ليس حياداً، بل هو السلاح الأخير للإبادة الجماعية.
مقدمة: عودة الحرب المؤجَّلة
قبل عشرين عاماً، غدا اسم دارفور مرادفاً للإبادة الجماعية. صور القرى المحروقة، والمقابر الجماعية، وسيل النازحين الذي لا ينقطع، هزّت ضمير العالم. تعهّد قادة العالم يومها بأن تلك الفظائع “لن تتكرر أبداً”.
لكن تلك العهود سرعان ما تهاوت. دارفور تحترق من جديد. المجتمعات ذاتها تُطارَد، القرى نفسها تتحوّل إلى رماد، والقتل الجماعي والتهجير القسري يعاودان الظهور، وغالباً بأيدي الفاعلين أنفسهم أو خلفائهم ممن ارتكبوا الجرائم الأولى.
الحرب التي اشتعلت مجدداً في عام 2023 ليست نزاعاً جديداً، بل استمرارية لجريمة لم تُستكمل فصولها. جريمة تُدار بوحشية متجددة تحت أنظار منظومة دولية تساوي بين التقاعس والحياد، وبين الصمت والدبلوماسية.
*الجغرافيا والجيوسياسة: تفكيك برميل البارود*
دارفور إقليم شاسع في غرب السودان، مساحته 493,000 كيلومتر مربع، أكبر من المملكة المتحدة ويقارب مساحة فرنسا، يضم فسيفساء متنوّعة تقارب ثمانين قبيلة ومجموعة إثنية، تتوزع بين رعاة رحّل ومجتمعات مستقرة. يجاور تشاد وليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى، في موقع جغرافي بالغ الخطورة حيث تتسرب اضطرابات الجوار عبر حدود رخوة ومفتوحة.
هذا الموقع حوّل دارفور إلى أكثر من مجرد أزمة سودانية. إنها صدع استراتيجي في المشهد الأمني الإفريقي. فهي ممر لتهريب السلاح، وللتجارة غير المشروعة، وللهجرات غير النظامية الممتدة من الساحل حتى المتوسط. وتحت أرضها ثروات غير مستغلة من الذهب واليورانيوم وربما حقول نفطية شاسعة، موارد تجعلها غنيمة مطمعاً كما تجعلها ساحة صراع.
ولاياتها الخمس، شمال وجنوب وشرق وغرب ووسط دارفور، يسكنها نحو ثمانية ملايين نسمة. عقود طويلة من الإهمال والتهميش جعلتهم عالقين بين ثروة موارد تستدرج النهب والاستغلال، ومركز سياسي لطالما أهمل التنمية والأمن.
*تحذير المحكمة الجنائية الدولية: استنساخ المأساة*
في عام 2023، أعادت المحكمة الجنائية الدولية فتح ملف التحقيق في فظائع دارفور. وأكد المدعي العام كريم خان، في إحاطته أمام مجلس الأمن، أنّ أنماط الجرائم التي أحالت القضية إلى المحكمة قبل عشرين عاماً لا تزال تتكرر: القتل المستهدف، تحويل الجوع إلى سلاح، والعنف الجنسي المنهجي.
وأشار خان إلى ما وصفه بـ”الاستمرارية المأساوية”، حيث يعيش جيل جديد اليوم الفظائع نفسها التي كابدها آباؤه بالأمس. وحذّر من أن تجاهل أوامر القبض الصادرة منذ سنوات، وعدم تنفيذها، لن يفضي إلا إلى تعميق دوامة الإفلات من العقاب، وزعزعة استقرار دارفور، وإطالة أمد معاناة سكانها والمنطقة بأسرها.
*الوحدة السياسية واتفاق جوبا للسلام: ركيزة الاستقرار*
بعد أكثر من عامين على حرب السودان ضد ميليشيا الدعم السريع، ما زال الصف الوطني متماسكاً: هزيمة التمرد واستعادة الاستقرار. وفي قلب هذا الصف، يؤكد الموقعون على اتفاق جوبا للسلام لعام 2020، ومنهم حركة تحرير السودان، أنّ تنفيذ الاتفاق كاملاً ليس مسألة ثانوية، بل ضرورة استراتيجية لسلام دائم.
وفي حديث لـ Brown Land News، شدّد الدكتور حسين أركو مناوي، مستشار حركة تحرير السودان وشقيق قائدها وحاكم دارفور مني أركو مناوي، على أنّ بروتوكولات الاتفاق تعالج الأزمة السودانية في مجملها، كما تعالج المظالم التاريخية الخاصة بدارفور: عودة النازحين واللاجئين، تسوية نزاعات الأراضي (الحواكير، وهي ملكيات تقليدية لأرض المجتمعات الأصلية، معترف بها ومحميّة عرفياً، مرتبطة بهويتهم وسبل عيشهم وشرعيتهم السياسية)، ودمج المقاتلين السابقين في الجيش وفق ترتيبات أمنية متفق عليها ضمن بروتوكول نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج.
وأشار إلى أنّ الالتزام الكامل بهذه البنود سيجعل من اتفاق جوبا ركيزة للمصالحة وركناً أساسياً في المجهود الوطني ضد ميليشيا الدعم السريع، كما سيمكن حركة تحرير السودان من استكمال تحولها إلى حزب سياسي مدني.
*جذور المأساة*
نزول دارفور إلى هاوية الحرب كان حصيلة عقود من التهميش. بحلول مطلع الألفية، كانت المظالم قد بلغت ذروتها نتيجة الإهمال السياسي، والتهميش الاقتصادي، والتمييز العرقي. في عام 2003، ثارت حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة ضد حكومة الخرطوم مطالبتين بالتنمية وإنهاء التمييز.
ردّ نظام البشير بآلة قمعية غاشمة، مطلقاً ميليشيات الجنجويد لشن حملة رعب وترويع. بين 2003 و2016، قُتل مئات الآلاف، وهُجّر الملايين، وغرقت المنطقة في دورات متكررة من الفظائع الجماعية. ورغم الغضب الدولي الذي قاد إلى مفاوضات سلام ونشر بعثة مشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، لم يُتوصل إلى تسوية دائمة. وظلت دارفور غارقة في العسكرة والفقر، معلّقة على حافة انفجار جديد.
*إرث الجنجويد وجرائم الدعم السريع*
في 9 سبتمبر 2015، أصدر هيومن رايتس ووتش تقريراً بعنوان رجال بلا رحمة، وثّق سلسلة من الانتهاكات المروّعة على يد قوات الدعم السريع، الورثة المباشرون لميليشيات الجنجويد. تضمنت الجرائم تهجيراً قسرياً لمجتمعات بأكملها، التعذيب، الإعدامات خارج القانون، الاغتصاب الجماعي، وتدمير البنى الأساسية للبقاء مثل الآبار ومخازن الغذاء. كما نهبت ثروات الأسر، خصوصاً الماشية، فانهارت سبل العيش في بيئة لا ترحم.
استند التقرير إلى شهادات 151 ناجياً لجأوا إلى تشاد وجنوب السودان. رووا كيف قُتل المدنيون لرفضهم مغادرة منازلهم، أو تسليم مواشيهم، أو الخضوع لاغتصاب أقاربهم. كما أدلى 21 شاهداً من قرية قولو ومحيطها بشهادات عن قتل واسع النطاق، وعنف جنسي، وضرب ونهب، جميعها ضمن حملة مرسومة لبث الرعب.
دعت المنظمة مجلس الأمن، ومجلس السلم والأمن الإفريقي، وبعثة اليوناميد، إلى اتخاذ خطوات صارمة: محاسبة الجناة، توسيع الممرات الإنسانية، توفير الرعاية الطبية والنفسية للضحايا، التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، ومحاكمة المسؤولين عن الجرائم الكبرى.
*جبهة جديدة: الهندسة الديمغرافية كسلاح إبادة*
بعد عقدين وأكثر، لا تزال أنماط العنف نفسها تتكرر، لكن هذه المرة بأهداف أكثر ظلاماً. تُتهم ميليشيا الدعم السريع اليوم بانتهاج سياسة تطهير عرقي وهندسة ديمغرافية ممنهجة. وبحسب الدكتور حسين أركو مناوي، فإن خطة الميليشيا البعيدة المدى تقوم على توطين قبائل عربية متناثرة عبر الساحل الإفريقي، من موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد وليبيا ونيجيريا والكاميرون، في أراضي دارفور الأصلية.
ويؤكد أن العديد من هذه القبائل تدين بالولاء لهويتها الإثنية العابرة للحدود أكثر من ولائها للدول التي تعيش فيها. هذه الاستراتيجية تستهدف مباشرة “الحواكير”. فبسط السيطرة على تلك الأراضي وإعادة تخصيصها للغرباء يعني محو المجتمعات الأصلية مادياً واجتثاث أسس النظام الاجتماعي والترابي لدارفور.
وحذّر الدكتور حسين مناوي من أنّ هذا التغيير، المنفَّذ بالقتل الجماعي والتهجير القسري، سيحوّر النسيج الديمغرافي والثقافي للإقليم بشكل لا رجعة فيه، بحيث يُجرَّد السكان الأصليون من أرضهم ويُستبدلون إلى الأبد.
*تحذير الحاكم*
أعلن حاكم دارفور، القائد مني أركو مناوي، أنّ ميليشيا الدعم السريع تتغذى على دعم سخي من دول أجنبية محددة، وتعزز صفوفها بمرتزقة من أكثر من اثنتي عشرة دولة، في خرق صارخ للقانون الدولي واعتداء سافر على سيادة السودان.
وفي بيان على صفحته الرسمية بفيسبوك بتاريخ 8 أغسطس 2025، اتهم الميليشيا بفرض حصار خانق على مدينة الفاشر، وحرق معسكر زمزم للنازحين، وارتكاب جرائم بشعة ضد المدنيين العزل.
وتعهّد بأنّ هذا “الوضع الاستثنائي لن يدوم طويلاً”، مؤكداً عزمه على تحرير المحاصرين، واستعادة الكرامة الوطنية، ورأب النسيج الاجتماعي الممزق. وجدد عهده لشعبه بأنهم سيواصلون النضال حتى يتحقق النصر، وأن العزة ستظل حكراً على هذا الشعب النبيل، وأن الخيانة والمؤامرة ستنتهي بالهزيمة.
*ما بعد الثورة: عنف منفلت بلا رادع*
قوبل سقوط عمر البشير عام 2019 على أنه بداية عهد جديد. لكن قوات الدعم السريع ظلت قائمة، جيشاً موازياً خارج السيطرة المدنية والعسكرية الكاملة.
في 3 يونيو 2019، ارتكبت هذه القوات مجزرة خلال فض اعتصام القيادة العامة في الخرطوم، راح ضحيتها أكثر من 100 شخص، وأُصيب أكثر من 700، وسُجل ما لا يقل عن 70 حالة اغتصاب وفق شهادات طبية نقلتها ذا غارديان. كانت العملية تحمل كل ملامح الإفلات المطلق من العقاب.
وبحلول أبريل 2023، تضاعف العنف إلى مستوى غير مسبوق. هجمات الدعم السريع في الجنينة والفاشر دفعت بأعداد الضحايا إلى مستويات تفوق حتى أسوأ سنوات مطلع الألفية.
منذ اندلاع حرب دارفور في 2003، ظل عدد القتلى يرتفع مع موجات التهجير الكبرى. تحت حكم المؤتمر الوطني، قدّرت منظمات دولية سقوط أكثر من 300 ألف قتيل، علامة سوداء في سجل الفظائع. لكن بعد أبريل 2023، تضاعف الرقم ثلاث مرات أو أكثر، إذ استهدفت الميليشيا المدنيين عمداً ليس في دارفور وحدها، بل عبر السودان كله. لم يكن ذلك ضرراً جانبياً، بل حملة متعمدة ومنظمة لمحو مجتمعات بأكملها.
*الخاتمة: صمت العالم وجه آخر للتواطؤ*
إن مأساة دارفور لم تكن ثمرة فوضى عابرة. إنها نتاج استراتيجية متعمدة، نُفّذت بدقة، وتغذيها ثقافة الإفلات من العقاب، وتتيحها السلبية أو الحسابات السياسية للمجتمع الدولي.
بعد عقدين من عهد “لن يتكرر أبداً”، عادت الحقول لتُروى بالدماء، وعادت المعسكرات لتفيض بالنازحين، وبات الجناة يتنقّلون بين ساحات القتال والعواصم الأجنبية في أمان.
الدرس صارخ: من دون تفكيك الآلة الحربية لميليشيا الدعم السريع، وتجفيف منابع تمويلها، ومحاسبة مموليها وممكّنيها، وتنفيذ أوامر القبض المهملة، وحماية المدنيين على الأرض، ستظل دارفور قبراً مفتوحاً في ضمير الإنسانية، وسيُسجَّل صمت اليوم كتواطؤ.
*كلمة الكتّاب: نداء إلى الضمير العالمي*
الأدلة دامغة. الأنماط لا يمكن إنكارها. الضحايا لم يعودوا أرقاماً، بل وجوهاً وأسماءً تشهد على فشلنا الجماعي. دارفور ليست حادثاً إنسانياً، بل جريمة جارية، ومن يملكون القدرة على وقفها اختاروا التردد على الحسم.
كل يوم من التقاعس يعزز قوة الجناة ويعمّق قبور الأبرياء. التصريحات الجوفاء، والقمم المصطنعة، والبيانات المنمقة ليست أعمال دبلوماسية، بل وجوه مختلفة للتواطؤ.
لم يعد السؤال ما إذا كان المجتمع الدولي يعرف ما يحدث في دارفور، بل ما إذا كان مستعداً لتحمّل الكلفة الأخلاقية والسياسية لتركه يستمر. تلك الكلفة لن تُقاس بأرواح السودانيين فقط، بل بمصداقية المؤسسات التي ادّعت يوماً أنها تقف ضد الإبادة الجماعية.
لقد وثّق التاريخ مسبقاً ما يحدث حين يدير العالم بصره بعيداً. واليوم، لا يزال السجل يُكتب، وكذلك الحكم.