أخر الأخبار

حروب الظل الرقمية .. عقاب للمواقع الوطنية وتلميع لخصومها

بقلم أمل أبوالقاسم

لم تعد الحروب في عصرنا تدار بالبندقية وحدها، بل أصبحت منصات الإعلام وفضاءات الإنترنت ساحات مواجهة لا تقل خطورة عن ميادين القتال. ولعل التجربة السودانية اليوم تعكس هذا التحول بوضوح، حيث أخذت المعركة أبعادًا رقمية تتجاوز حدود الأرض إلى فضاء البحث والظهور في مقترحات “قوقل”.

منذ اندلاع الحرب، انفجرت الساحة الإعلامية السودانية بمئات المواقع الإلكترونية التي وُلدت على عجل، في ظل توقف الصحف الورقية التي كانت تشكل الوعاء الطبيعي للعمل الصحفي. ومع فقدان الصحفيين لمصادر دخلهم، لم يجد كثيرون بدًا من إنشاء مواقع إلكترونية، في محاولة للتكسب ومجاراة الواقع الجديد. غير أن هذا الانفجار الكمي لم يكن مصحوبًا برقابة أو معايير مهنية واضحة، ما جعل المشهد مزدحمًا بأخبار متساقطة من وسائل التواصل الاجتماعي، وأحيانًا خالية من التحقق أو التحقيق الجاد.

لكن وسط هذه الفوضى، برزت مواقع وطنية ظلت على الدوام داعمة للجيش السوداني، وكاشفة لانتهاكات المليشيا، وموثقة لتدخلات دولية في تغذية الصراع عبر تقارير ووثائق منشورة ومبذولة. هذه المواقع مثلت صوتًا مختلفًا في مواجهة آلة دعائية إقليمية ودولية منظمة، مما جعلها هدفًا لحملات إقصاء رقمية مريبة.

اللافت أن هذه المواقع بدأت تفقد ظهورها التدريجي في مقترحات “قوقل”، بينما صعدت مواقع أخرى بعينها لتتصدر المشهد الرقمي وتصبح “سيدة البحث”، رغم ضعف محتواها مقارنة بما كانت تقدمه المنصات الوطنية. هنا يثور التساؤل: هل نحن إزاء منافسة طبيعية محكومة بخوارزميات البحث؟ أم أن الأمر يتجاوز ذلك إلى تدخلات مقصودة، تسعى لتغييب الصوت الوطني وإبراز آخر يخدم أجندات محددة؟

وبحسب بحث عميق أسفر عن ثمة نماذج سابقة حدثت في حروب الإقليم تقدم دلائل قوية على أن “الحجب الناعم” (Soft Censorship) _ حسبما تبين لي _ لم يعد أمرًا نظريًا، بل ممارسة حقيقية تتم عبر شراء إعلانات موجهة، وتغذية مواقع محددة بروابط خلفية مصطنعة، إلى جانب التبليغات الكيدية ضد المنصات المناوئة. وقد أثبتت تجارب الصين، وروسيا، وحتى المنطقة العربية أن الصراع على الفضاء الرقمي أصبح أداة أساسية لتشكيل الرأي العام، وأن تغييب موقع أو منصة إعلامية قد يكون بفعالية إغلاق صحيفة أو حجب محطة تلفزيونية وغير ذلك.

المؤسف أن الدولة السودانية لا تدرك حتى اللحظة أو ربما ليس لديها علم بخطورة هذه المعركة، وهي التي لم توفر أي دعم حقيقي للمواقع الوطنية، لا على مستوى البنية التقنية، ولا على مستوى الدعم المالي أو المعنوي رغم تصريحات بذلك لم تتنزل بعد. ونتيجة لذلك، تُرك الصحفيون يواجهون مصيرهم، بعضهم يتحدث عن اتجاه لإغلاق موقعه بعد خسائر متلاحقة، والبعض الآخر اضطر للتخفف من والاكتفاء بنشر متقطع طلبًا للبقاء أو من باب المواكبة فقط واشباع نهم رغبة ممارسة الصحافة تحت أي ظرف.

ما يحدث اليوم هو معركة على الوعي، يُراد فيها للصوت الوطني أن يُدفن في ركام الخوارزميات، بينما يُلمّع آخر مصطنع ليبدو وكأنه الحقيقة. إنها “حروب ظل رقمية” لا تقل خطورة عن المدافع والدانات، بل قد تكون أكثر فتكًا، لأنها تستهدف عقول الناس وتعيد تشكيل وعيهم بعيدًا عن الوقائع.
ولذلك، فإن على الدولة، ومعها المؤسسات الإعلامية الوطنية، أن تدرك أن هذه المعركة لن تُكسب بالصمت، بل بالاستثمار في الإعلام الرقمي، وتطوير قدراته، ودعمه ماديًا وتقنيًا، حتى يبقى الصوت الوطني حاضرًا وفاعلاً في ساحة الوعي الجمعي. فهل من مجيب؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × اثنان =

زر الذهاب إلى الأعلى