أخر الأخبار

دكتور الهادي عبد الله ابو ضفائر يكتب : اللقمة والفكرة، معركة السيادة الخفية

ليست كل الهزائم تبدأ بصليل السيوف أو هدير المدافع، فبعضها يتسلل إلينا في صمت، مثل غبارٍ ناعم يتراكم على الأثاث حتى يغطي كل شيء. قد تبدأ الهزيمة من زوايا المطبخ، حين نمد أيدينا إلى طعامٍ لا نعرف أرضه، ومن ورش الخياطة حين نعجز عن إصلاح ثوب دون إبرة مستوردة، ومن الأسواق حين تُملأ رفوفها ببضائع تحمل أسماء لم تولد في جغرافيتنا. هنا، قبل أن تُطلق الرصاصة الأولى، يكون السقوط قد بدأ.

الأمة التي تعجز عن أن تصنع من حديدها شوكةً تأكل بها، أو أن تنحت من معدن أرضها إبرةً تخيط بها جراح ثوبها، أو أن تنسج من قطن حقولها قميص كرامتها، هي أمة أضاعت مفاتيح السيادة من بين أصابعها قبل أن تُضرب الحصار على حدودها. القوة ليست بندقية فحسب، بل هي أيضاً ورشة صغيرة تصنع البراغي، ومصنع يحيك القماش، وحقل يزرع القمح. فالاستقلال الصناعي هو الدرع الذي يحمي السيادة السياسية. ومن يعتاد التسوّل الاقتصادي، لن يملك يداً تمسك بسيف التحرير.

في سوداننا الحبيب، أرضٌ تذخر بالموارد، لكنها تُصدّر خيراتها، ثم نشتريها من الآخرين بثمن مضاعف. مدنٌ تتلألأ ببريق واجهاتها، وأسواقٌ تفيض بالبضائع، لكن قلبها الصناعي فارغ، وروحها الإنتاجية غائبة، كأننا نقف على كنز، ونستعير مفتاحه من يد غيرنا. موانئ تزدحم بالبضائع المستوردة، بينما خطوط الإنتاج المحلية خافتة أو معدومة. حتى الورق الذي تُكتب عليه الشعارات الوطنية، غالباً ما يأتي من وراء البحار. هكذا نصبح أسرى التبعية الاقتصادية، التي تجرّ معها التبعية السياسية، ثم تفتح الطريق أمام التبعية الثقافية، حتى نصحو ذات يوم فنجد أن ما نأكله ونلبسه ونفكر فيه جميعه مستورد.

النهضة ليست مشروعاً ضخماً يبدأ من قمة الهرم، بل هي بناءٌ يبدأ من القاعدة. من الملعقة التي نصنعها بأيدينا، إلى الكتاب الذي نطبع أوراقه في مطابعنا، إلى الحذاء الذي نحيك جلده من مواردنا. الأمم التي نهضت لم تبدأ بصناعة الطائرات والصواريخ، بل بإتقان صناعة الإبرة والمطرقة والمحراث. اليابان، بعد الحرب العالمية الثانية، لم تنتظر معجزة، بل بدأت بصناعة أدوات بسيطة بجودة عالية، حتى أصبحت علامة في الابتكار.

حين يفقد المجتمع ثقته في قدرته على الاكتفاء الذاتي، يبدأ الانهيار من الداخل صامتاً لكنه حتمي. عندها، يصبح الاحتلال الخارجي مجرد مسألة وقت، وكأن الأعداء لا يحتاجون سوى إشارة من داخلنا. فالهزيمة التي تولد في المطبخ تصل حتماً إلى ساحة القتال، لأن الجندي الذي يأكل من قوتٍ مستورد، ويستظل تحت خيمة لم تُنسج بيديه، يقاتل وسط فراغٍ أعمق من المعركة نفسها، فراغٌ يولده العجز عن الإنتاج، وعجزٌ عن الثقة في نفسه، وعجزٌ عن أن يكون جزءاً من صناعة مصيره.

إن استقلال الأمم لا يبدأ من القصور ومؤسسات السيادة، بل من قدرة الناس على صناعة حاجاتهم الأساسية بأيديهم، وشعورهم العميق بأنهم قادرون على الاكتفاء مما تنتجه أرضهم وعقولهم. فالأمة التي تصنع خبزها، وتحيك ثوبها، وتطبع فكرها، هي الأمة التي تصنع مستقبلها، وتحرر أرضها، وتحمي قرارها من أن يُكتب في عواصم بعيدة. إن السيادة لا تُشترى بالمال، ولا تُمنح بالوعود، بل تُبنى حجراً فوق حجر، وورشةً بعد ورشة، وفكرةً بعد فكرة. كل رغيف خبز نصنعه، كل ملعقة نُنتجها، كل كتاب نطبعه، هو خطوة في طريق التحرر الحقيقي.

فالمعركة الكبرى هي معركة الوعي والإنتاج. أن نستعيد قدرتنا على البناء وأن نكفّ عن العيش على ما يُمنّ به الآخرون. لأن الذي يتحكم في لُقمتك قد يتحكم في قرارك، ومن يملك حاجتك يملك رقبتك. فقط حين نعيد إلى أيادينا صنع ما نحتاجه، ونغرس بذرة الإنتاج كما نغرس بذرة الأمل، حينها ستعود السيادة لأرضنا، والحياة لعقولنا، والحرية لمصيرنا. فالأمة التي تنتج بنفسها، هي الأمة التي تحرر نفسها من قيود التبعية، وتكتب تاريخها بيدها لا بيد غيرها.

abudafair@hotmail.com 16/08/25

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة × خمسة =

زر الذهاب إلى الأعلى