أخر الأخبار

من همشكوريب إلى الفاشر: سبعة عقود من الصمود في وجه العواصف

بقلم: د. عبدالناصر سلم حامد – كبير الباحثين ومدير برنامج شرق أفريقيا والسودان – مركز فوكس للأبحاث، السويد

قبل أن يعلن الفجر حضوره، كانت الفاشر تستعد ليوم آخر من أيام الحصار الطويلة. في السماء، اختلط لون الغبار بظلال الفجر الرمادية، وفي الأرض كانت الأقدام تترسخ في المتاريس، والعيون تترقب أي حركة في الأفق. فجأة، اخترق السكون صوت مدفعية ثقيلة، أعقبه دوي متواصل لقذائف هاون سقطت قرب الحي الشمالي. كان ذلك إنذارًا صريحًا بأن المليشيا تستعد لمحاولة اقتحام جديدة، واحدة من تلك المحاولات التي تجاوز عددها 243 مرة منذ بداية الحرب.

في غرفة العمليات الأمامية، كانت الخرائط تُحدّق في الوجوه كما لو كانت تعرف سرها. الرائد “م.” أمسك بجهاز اللاسلكي وقال بصوت ثابت: “المحور الشمالي الشرقي… تحركت المدرعات… استعدوا للتصدي”. على الطرف الآخر جاء الرد من قائد وحدة المجاهدين: “مفهوم… لن يمروا إلا على أجسادنا”.

بدأت المعركة بضرب تمهيدي كثيف، حاول العدو من خلاله إرباك الدفاعات وإجبار الوحدات على الانسحاب من الخطوط الأمامية. لكن في الخنادق، كان الجنود يعرفون أن الصمود في الدقائق الأولى هو مفتاح الانتصار. أحد المقاتلين، شاب في منتصف العشرينات، مسح العرق والبارود عن وجهه وقال لرفيقه: “تذكر… نحن لا نحارب فقط من أجل الفاشر، بل من أجل كل السودان”.

العدو تقدم على شكل موجات، مدرعات تتقدم بسرعة ودراجات نارية تلتف من الأجناب، بينما القناصة يحاولون تثبيت المدافعين. غير أن تكتيك الجيش كان قد تغيّر؛ بدلاً من المواجهة المباشرة، تم سحب بعض الوحدات بشكل محسوب لفتح ممر وهمي، دفع العدو للاندفاع أكثر نحو كمين مُعد بعناية. في اللحظة المناسبة، دوّت صيحة “الله أكبر” وانطلقت وحدات الاقتحام من ثلاثة محاور، لتغلق على المهاجمين وتقطع تواصلهم مع خط الإمداد.

خلال أقل من ساعة، تحوّلت المليشيا من وضع الهجوم إلى محاولة يائسة للانسحاب. أصوات المدافع تراجعت، ورائحة البارود امتزجت بدخان آلياتهم المحترقة. في نهاية المحور الغربي، وقف جندي من القوات المشتركة فوق مدرعة معطوبة، يلوّح بعلم السودان، والابتسامة تملأ وجهه الملطخ بالغبار.

هذه ليست معركة معزولة، بل فصل جديد في كتاب طويل كتبه الجيش السوداني على مدى 71 عامًا. من همشكوريب حيث كانت البنادق تصد هجمات في تضاريس وعرة، إلى الكرمك حيث تعلم الجيش القتال في الغابات الكثيفة، وصولاً إلى شوارع الفاشر اليوم حيث تفرض حرب المدن تكتيكات معقدة، ظل الجيش يتأقلم مع كل أرض وعدو.

السر في الصمود لم يكن في السلاح وحده، بل في وحدة الصف. الجيش، القوات المشتركة الموقعة على اتفاق جوبا، المجاهدون، والكتائب الأمنية، جميعهم يقاتلون كتفًا إلى كتف. في الميدان، لا أحد يسأل عن الشعار على الكتف أو لون الزي؛ كلهم أبناء أرض واحدة. القوات المشتركة برعت في الاشتباك القريب، المجاهدون كانوا رأس الحربة في القتال داخل الأزقة الضيقة، والكتائب الأمنية قدّمت شبكة استخبارات ولوجستيات حالت دون نجاح العدو في مباغتة الدفاعات.

الحصار كان اختبارًا للقوة والتحمل. حاولت المليشيا قطع الإمدادات، إغلاق الطرق، منع وصول الغذاء والدواء، وتحويل المعركة إلى حرب جوع. لكن المدينة ردّت بتلاحم نادر؛ النساء أعددن الطعام للمقاتلين، الشبان نظموا نقاط مراقبة في الأزقة، والأطفال رسموا علم السودان على الجدران السوداء من أثر النيران.

في إحدى الليالي، بينما كانت السماء تمطر شظايا، جلس قائد ميداني مع جنوده خلف ساتر ترابي، يوزع عليهم الماء القليل المتبقي، وقال لهم: “قد تنفد الذخيرة… قد ينقص الطعام… لكن إيمانكم لا يجب أن ينقص”. تلك الكلمات انتقلت من خندق إلى آخر، حتى صارت شعارًا غير مكتوب للمدينة.

لقد تجاوز تأثير صمود الفاشر حدود أسوارها الترابية، ليهزّ موازين القوى على امتداد الجغرافيا السودانية. فشل المليشيا في اختراق المدينة بعد 243 محاولة لم يكن مجرد إخفاق ميداني، بل رسالة استراتيجية وصلت إلى كل الجبهات: أن الجيش وقواته المساندة قادرة على قلب المعادلة حتى في أصعب ظروف الحصار. هذا الثبات أعاد الثقة للمدن الصامدة الأخرى، ورفع الروح المعنوية في معسكرات الجيش من كردفان إلى النيل الأزرق. إقليميًا، صار صمود الفاشر ورقة ضغط سياسية، فرضت نفسها على طاولات التفاوض وأجبرت أطرافًا دولية كانت تراهن على سقوطها على إعادة حساباتها. لقد تحولت المدينة من مجرد نقطة على الخريطة إلى رمز استراتيجي، يقلب الحسابات ويعيد تعريف معادلات القوة في السودان.

ومع حلول الذكرى الحادية والسبعين لتأسيس الجيش السوداني، تقف الفاشر اليوم كدليل حي على أن الإرث العسكري ليس تاريخًا يُروى، بل واقعًا يُعاش. لم تحدث انشقاقات، لم تتزعزع الروح القتالية، ورغم قسوة الحصار ونقص الموارد، بقيت المعركة قائمة على قسم الدفاع عن الأرض حتى آخر رمق. ومن متاريس الفاشر، كما من جبال همشكوريب والكرمك من قبل، يمتد خط الشرف العسكري الذي لا ينكسر.

اليوم، حين تسير في أزقة الفاشر، قد ترى طفلاً يرفع العلم بيديه الصغيرتين، وجنديًا يمر بجانبه مبتسمًا رغم التعب، وتدرك أن هذه ليست فقط حربًا على أرض، بل معركة على معنى الوطن نفسه. ومن كل نقطة مقاومة، ومن كل خندق، يرتفع الصوت: “نموت ويحيا السودان”. هكذا تُكتب أسطورة جديدة في تاريخ الجيش السوداني، أسطورة ستُروى كما رويت معارك الأمس، لأن الشرف في قاموس الجيش السوداني عهد يُحمل… حتى آخر نفس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة + 16 =

زر الذهاب إلى الأعلى