
في المجتمعات التي أدركت قيمة الوقت، لا يُنظر إليه كمساحة فراغ بين حدثين، بل كأغلى ما يملكه الإنسان. الوقت هناك هو وعاء الحياة، ومقياس الإنجاز، ومؤشر على احترام الذات والآخرين. وقد كنت على موعدٍ شخصي مع هذه الفكرة، حين سافرت إلى بريطانيا قبل عيد ميلاد الملكة إليزابيث بأسبوع واحد، بدعوة من الكلية الملكية البريطانية لتكريمنا بشهادات علمية لنيلنا زمالة الكليه الملكيه البريطانيه في ذلك الوقت . تزامن الحفل مع الاحتفالات الوطنية بعيد ميلاد الملكة، التي عمّت البلاد في مهرجانات مبهجة، كان فيها التنظيم دقيقًا، والمشاركة واسعة، والروح الوطنية متقدة.
سعدت كثيرًا بذلك الجو العام، لكن ما شدني أكثر هو مشهد الملكة نفسها، في عمر الثامنة والتسعين، تشارك بكل أناقتها في واحدة من فعاليات المناسبة: افتتاح محطة القطار السريع الجديدة. كانت حاضرة، متألقة، والدهشة الأكبر أن كل شيء تم في موعده بالثانية، رغم الزحام وكثرة المشاركين وكبر الحدث. وقتها أدركت أن احترام الوقت هناك ليس شعارًا، بل سلوك متجذر في كل مفصل من مفاصل الحياة العامة.
وفي المقابل، قبل مغادرتي من مطار الخرطوم، كان الزحام المعتاد حاضرًا، لكن اللقاء الذي جمعني هناك بأحد الركاب جعل الانتظار أكثر عمقًا وتأملًا. رجل يبدو في السبعينات من عمره، نحيل الجسد، أنيق الهيئة، يكسوه وقار السنوات وتجارب الحياة. حين تحدث، بدا وكأن صوته لا يزال يحمل صلابة المسؤولين الكبار، وعقله متقد رغم تعب الجسد. عرفني بنفسه قائلًا: “أنا رئيس المنظمة السودانية لاحترام الوقت”.
شدني الاسم قبل تفاصيل الحديث، فأغلقت كتابي الذي كنت أنوي قراءته في الرحلة، وانخرطت في حوارٍ طال أكثر مما توقعت. حدثني عن المنظمة، عن رسالتها، عن الصعوبات التي تواجهها في بلد لا يزال يعتبر احترام الوقت أمرًا ثانويًا. كان الرجل يتحدث كمن يحمل مهمة أمة فوق كتفيه، متشبثًا بإيمانه رغم قلة الدعم وضعف التجاوب من الدولة والمجتمع.
أخذني حديثه للتفكر في واقعنا، وبدأت أطرح على نفسي أسئلة موجعة: لماذا لا نحترم الوقت في السودان؟ هل هي أزمة ثقافة أم انعكاس لقيم اجتماعية جميلة في ظاهرها لكنها تُسيء للوقت في تطبيقها؟ في مناسباتنا الاجتماعية، نعطل العمل، ونؤجل الدراسة، ونسافر لمئات الكيلومترات لحضور أفراح أو مآتم، وكأنها فروض عين لا تسقط حتى بالضرورة. بل كم من مريض تعطلت معالجته بسبب تكدس الزوار، وكم من مشروع تأجل لأن مسؤولًا “تأخر قليلًا”، وكم من أكاذيب صغيرة نرددها لتبرير التأخير، حتى أصبح الصدق استثناءً.
إن التكافل الاجتماعي، وعيادة المريض، ومواساة أهل الفقيد، كلها قيم نبيلة حضّ عليها ديننا، لكنها فُهمت أحيانًا خارج سياقها، وتحولت من سلوك جماعي راقٍ إلى عبء على الفرد، ومصدر لتعطيل الإنتاج، وتضييع الوقت. وبدلًا من أن نُعذر من لم يشارك بسبب عمل أو التزام، نلومه ونجرّمه مجتمعيًا.
ما نحتاج إليه هو مراجعة لهذه الممارسات، لا تنقض روح القيم، بل تعيد ضبطها. يمكننا أن نكون متكافلين ومنتجين في آنٍ واحد، أن نحافظ على حرمة الوقت، دون أن نفقد دفء العلاقات. ويجب أن يبدأ التغيير من الأعلى، من المسؤولين، من الوزراء، من الإعلام، من المؤسسات التي ينبغي أن ترفع شعارات تُذكّر الموظفين والزوار بأن “الوقت حياة”، وليس مجرد رفاهية يمكن التفريط فيها.
ومرت الشهور، وبعد نحو ثلاثة أشهر من تلك الرحلة، جاءني خبر وفاة الملكة إليزابيث. وحزنت أكثر حين علمت أن ذلك العيد كان آخر عيد ميلاد لها. كل تلك الأناقة والبهاء والمهابة، كانت تودعنا دون أن ندري. لكن ما استوقفني أكثر من الخبر، هو كيف تمت مراسم الدفن.
جنازة بحجم المهرجانات العالمية، شارك فيها ملوك ورؤساء من كل أنحاء العالم، ومرت بسلاسة منقطعة النظير، كأنها بروفة أُجريت آلاف المرات من قبل. والواقع أنها كانت كذلك فعلًا. فقد كانت هناك لجنة خاصة بجنازة الملكة تم تشكيلها منذ ستينيات القرن الماضي، أي بعد أعوام قليلة من اعتلائها العرش في 1952، واستمرت تعمل بهدوء وتحديث مستمر لأكثر من ستين عامًا، تحت اسم “عملية جسر لندن”. لم تكن خطة شكلية، بل وثيقة متكاملة أُعدّت فيها كل التفاصيل: من إعلان الوفاة، إلى مراسم الجنازة، مرورًا بترتيبات الأمن، وتنظيم الجمهور، وتنسيق الإعلام، وبيانات البث الرسمي. حتى إذا ما توفيت الملكة في اسكتلندا، كما حدث، فُعلت خطة بديلة جاهزة باسم “عملية يونيكورن”. كان كل شيء محسوبًا بالدقيقة. لا عشوائية، لا ارتجال، لا تأخير.
هكذا تُدار الأمم التي تحترم الوقت، حتى أمام الموت. فالزمن هناك لا يتوقف، بل يُدار، ويُحترم، ويُخطط له. وهذا ما نحتاج أن نغرسه في وعينا الجمعي، لا بشعارات، بل بسلوك، وبسياسات، وبمؤسسات جادة.
نسأل الله أن يوفق رئيس المنظمة السودانية لاحترام الوقت، في رسالته النبيلة، وأن تجد صرخته من يسمعها… وأن نجد نحن من يوقظ فينا الشعور بأن احترام الوقت ليس خيارًا… بل هو مقياس تحضّر، ومفتاح نهضة، ومرآة صادقة لما نريده لهذا الوطن.
ونسأل الله أن يمنّ على السودان بنهضة لا تُؤسس على المشاريع وحدها، بل على الوقت الذي يُحترم، والعمل الذي يُنجز، والضمير الذي لا يبرر التأخير ولا يعتاد الفوضى. دعاؤنا أن نرى وطنًا تُشيّد فيه المصانع والمدارس والمستشفيات كما تُشيّد الجوامع، ويُكتب فيه التاريخ لا بالبطولات وحدها، بل بالدقائق التي لا تُهدر، وبالساعات التي تُثمّن، وبالأيام التي لا تضيع في انتظار من لا يأتي. فالأوطان لا تنهض إلا حين تُؤمن أن الوقت حياة… وأن كل لحظة منه، مسؤولية.