دكتور صلاح دعاك يكتب : في زمن الحرب… الطيبون لا يتغيّرون

هناك طيبةٌ في بعض الناس حين تتعامل معهم تُشعرك أنهم من طينةٍ أخرى، كأنهم ليسوا من هذا العالم الذي نعرفه. عالمهم مختلف، قلوبهم بيضاء، وأخلاقهم لم تتأثر بتقلبات الحياة ولا صراعاتها. رغم الحرب التي مزّقت البلاد، ورغم انعدام الأمان الاقتصادي، والخوف الكثيف من الغد، إلا أنك تجد في بعض الوجوه بقايا نور فطرةٍ لم تُطفأ، وقلوبًا لم تلوّثها الأزمات، ولا بدّلتها المحن.
في سفري هذا اليوم، الجمعة الاول من اغسطس الفين خمس و عشرين ، من بورتسودان إلى القاهرة، وبينما كنت في صالة المغادرة، لفت انتباهي رجلٌ يبدو في منتصف الخمسينات من عمره، يركض خلف طفل صغير يصرخ بكل طاقته. حاول الرجل تهدئته مرارًا، لكن دون جدوى. بدا عليه التعب والإحراج، وقد أرهقته المحاولة، لكنه ظلّ مصرًّا على تهدئته. كان الطفل في الرابعة من عمره، يصرخ بلا توقف، والجوّ حار، والقاعة مزدحمة بالركاب الواقفين في طابور طويل بانتظار صعود البص المؤدي إلى الطائرة. التفت الجميع إلى المشهد، وبعضهم تدخل ليساعد الرجل في إسكات الطفل، الذي ازداد عنادًا وصراخًا.
عند سلم الطائرة، رفض الطفل الصعود وهو يصرخ: “بابا! بابا!”، يحاول الرجل إقناعه بأن والده بانتظاره داخل الطائرة. تدخلت بدوري لمساعدته، لكن الطفل سبقنا إلى داخل الطائرة مهرولًا، والرجل يحاول الإمساك بيده كي لا يدخل وحده، ثم استسلم أخيرًا وتركه. دخلنا خلفه، وما إن اكتشف الطفل أن والده ليس هناك حتى بدأ في صراخ أشد وأعلى صوتًا، بكاءً بحُرقةٍ أزعج الجميع، فراح الركاب من حوله يحاولون تهدئته، إلى أن جاءت مضيفة، وبعد جهد استطاعت أن تسكّنه وتأخذه معها.
حين جلس الرجل بجانبي، في المقعد المجاور لي، سألته عن والد الطفل، فأجابني بأن والده لا يزال في السودان لظروف خاصه لم يستطع الحضور ، وقد أوصاه بأن يصطحب الطفل إلى القاهرة ليوصله إلى والدته، التي سبقتهم إلى هناك بسبب ظروف الحرب التي فرقت الاسر و ارقت مضاجعهم . حينها توقفت قليلًا أتأمل. كم من الناس يضيق صدره من حمل كيس صغير أمانة أو مظروف في سفره؟ بينما هذا الرجل يقبل أن يحمل معه طفلًا لا يزال في الرابعة، لا قد يستطيع ان يقضي حاجته وحده اذا اراد الدخول الي الحمام ، ولا يميز دربه، وكل ذلك أمانة بين يديه! أدركت وقتها أن هناك أناسًا لا يشبهون سائر الناس، معدنهم مختلف، وقلوبهم أكبر من أن تُقاس بقياساتنا المادية. وراحت هذه الصورة تملأ ذهني، فكتبت تأملاتي هذه في أثناء الرحلة، التي امتدت ساعتين.
تذكرت أيضًا موقفًا طريفًا لكنه لا يقل دلالة. أحد الذين أعرفهم، كان معروفًا بأنه قد ينام في أي مكان، مهما كان الضجيج حوله. أحيانًا يأخذ ابنه الصغير معه في السيارة، فقط ليوقظه عندما تفتح إشارة المرور، لأنه قد ينام بعمق وسط الزحام في فترة انتظار تغير الإشارة! حدّثني ذات مرة أنه في إحدى سفراته إلى دولة أوروبية قابله رجل في المطار وطلب منه أن يوصل ابنته، ذات الثلاث سنوات، إلى فرنسا. كانت الرحلة طويلة، وفيها توقف (ترانزيت) في مطار إسطنبول. وكما هي عادته، غلبه النوم، وعندما استيقظ لم يجد الطفلة التي كانت معه. بحث عنها وسط جموع المسافرين في ذلك المطار الشاسع، المطار الذي هو مدينة بأكملها، حتى وجدها بعد معاناة طويلة. وكان مما رواه لي ممازحًا أنه اضطر للبحث عن امرأة لتساعده في تغيير حفاظة الطفلة، لأنه لم يكن يعرف كيف يتعامل مع هذا الموقف! هذا نموذج آخر من الطيبة العفوية، التي تتجسد في رجلٍ صالح، نقي، عُرف بمروءته وخدمته للناس، لكنها تتحدث عنه بأفعاله.
وفي لحظة من هذا التأمل، عادت صورة والدتي –رحمها الله– إلى قلبي، امرأة أحسبها عاشت بيننا وهي من أهل الجنة. عندما نقول “أهل الجنة”، فإننا لا نقصد بها أولئك الذين يدخلون الجنة بإذن الله ، بل أولئك الذين تمثّلوا صفات أهل الجنة وهم معنا في هذه الدنيا، تلك الصفات التي ذكرها الله حين قال: “ونزعنا ما في صدورهم من غلّ”. إن أعظم نعيم الجنة هو في طهارة القلوب، في غياب الحسد والضغينة والغل. الجنة ليست فقط ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، بل هي سلام داخلي لا يُشترى، وسكينة في القلب لا يشوبها حقد. وهناك أناس يعيشون بيننا وكأنهم يعيشون في الجنة، لا يحقدون، ولا يحسدون، ولا يتذمرون. يفرحون بنجاح غيرهم كما لو كان نجاحهم، يرضون بما عندهم، ويفرحون بما عند الناس، فتراهم يتحركون في فضاء من الرضا والفرح، لا تحده حدود. أليس هذا هو بعض من نعيم الجنة في الدنيا؟
من الناس من لا يعرفون الغيبة، ولا القطيعة، ولا النميمة، وكأن فطرتهم مجبولة على النقاء. وكانت والدتي –أحسبها كذلك– من هؤلاء. وأدرك أن شهادة الابن مجروحة، لكن هذا ما عرفه عنها كل من اقترب منها. أذكر وأنا طفل، جاءت امرأة من أهل الحي إلى منزلنا، ونادت على والدتي وقالت: “تعالي، اليوم سأحكي لك شيئًا… لكن لا تقولي لأحد”. وكانت والدتي في المطبخ تجهز شيئًا من الضيافة للمرأة. وحين عادت، قدّمت لها ما أعدّت، وقالت بلطف: “إذا كان هذا الأمر سرًّا، ولا تريدين أن يعرفه أحد، فأرجو أن لا تقوليه لي… فربما غدًا تسمعينه في الحي وتظنين أنني من نقله”. وانتهى الحوار هناك. فهمت المرأة أن هذا البيت ليس محلًا للنميمة ولا القطيعة. والدتي –رحمها الله– عاشت بيننا بروحٍ لا تعرف السخط، ولا تتضجر من الناس، كانت تمشي في هذه الدنيا كما يمشي أهل الجنة برضا وطمأنينة، كما نحسب. فكانت مثالًا للقلب الصافي والروح البريئة.
أذكر مرة رافقتها إلى جارتنا، التي كانت تربي عددًا من الأبقار، فلما علمت والدتي أن إحدى بقراتها قد نفقت، بكت معها وعزّتها كما يُعزّى المرء في فقيد عزيز. سألتها مازحًا: “ليه يا أمي عملتي كده ؟!”، فأجابتني: “أنا عارفة إن البقرة دي عزيزة عليها”. كانت والدتي –رحمها الله– إنسانة تمشي على الأرض، لكنها تُشبه ملائكة الرحمة اقول هذا و لا ابالغ كانت ترأف بالحيوان كما الانسان و لها مقوله ( الحيوانات دي ما بتتكلم ،هي في زمتنا) نسأل الله أن يتقبلها قبولا حسنا مع الصديقين و الشهداء .
وهناك أمثلة أخرى لأخلاقٍ ترفع الرأس. أحكي عن رجل كان من أهل الزراعة، وكان يفقد بعض الجوالات من حصاد حواشته، في توقيت ثابت بعد صلاة المغرب. قرر في أحد الأيام أن لا يذهب للصلاة، وبدلًا من ذلك، اندسّ بين أكوام الجوالات ليرى من يأخذها. بعد الصلاة، نادى أبناءه وقال لهم: “عرفت من يأخذ الجوالات”. سألوه بلهفة: “من؟”، فقال: “جارنا، الذي يأكل معنا ويشرب معنا”. اندهش أحد الأبناء وسأله: “وماذا فعلت؟”، فأجابه: “لم أفعل شيئًا. ظللت في مكاني حتى أخذ الجوال ومضى”. غضب الابن وقال: “كان عليك أن تخرج عليه وتمنعه كي لا يعيدها”. فرد الأب بهدوء: “هو جارنا، وبيننا ملح وملاح، خشيت أن أكسر عينه أمامكم… يا أولادي، اجمعوا الجوالات وأدخلوها المخزن، وانتهى الدرس”. هكذا تمضي أخلاق من تمثلوا قوله تعالى: “فمن عفا وأصلح فأجره على الله.”
أذكر أيضًا قصة طريفة، لكنها تحمل في عمقها معاني الكرم والتسامح. رجل من عطبرة، من أهلنا وكبارنا، افتتح “لكوندة” –فندقًا صغيرًا أو استراحة– في مدينة الضعين. كان معروفًا بكرمه الفاضح، كما يقال. كان يُنزل التجار، خاصة تجار المحاصيل والأبقار القادمين من الجنوب إلى الشمال، في لكوندته. وبعد يومين من الإقامة، يكون التعارف قد تم، فيحلف عليهم بالطلاق ألا يبقوا في الكوندة، بل يأتوا إلى ديوانه في منزله! وكان يفعل ذلك مرارًا، حتى تكررت حلفه بالطلاق علي كل من عرفه او تعرف عليه اثناء اقامته ، وتحوّلت الكوندة إلى مخازن، خسر تجارته. لكنه لم يخسر قلوب الناس ؛ لقد كسب قلوب الناس، وأصبح اسمه يتردد على الألسنة مثالًا للكرم والمروءة و معروف ان الكرم من الايمان ( من كان يؤمن بالله و اليوم الاخر فاليكرم ضيفه ) . وما الكرم إلا شجاعة من نوع آخر، فقد قال الشاعر قديمًا: “الجود يُفقر، والإقدام قتال”، وكلاهما وجهان لفضيلة واحدة… فيها تُستعمل اليد في كل بطريقة مختلفه. وتُظهر النفس شموخها.
فلنُصغِ لنداء الضمير، ولصوت الفطرة التي جبلنا الله عليها. دعونا ننبذ الحرب، لا لأنها فقط تُهلك الزرع والنسل، بل لأنها تُطفئ فينا القيم التي ورثناها من أجدادٍ ما عرفوا إلا السماحة والكرم والنجدة. فليعد السودان كما كان: وطنًا للطيبة، وموطنًا للصفاء، وأرضًا لا يسكنها الغلّ، بل تتسع صدورها للجميع. ما أحوجنا اليوم أن نغسل قلوبنا من الأحقاد، ونُعيد الاعتبار لأخلاقنا السودانية التي ضُرب بها المثل، في الشهامة والمروءة والتسامح. فلا سلام بلا محبة، ولا وطن بلا تعايش. فلنفتح نوافذنا للضوء، وقلوبنا للتصافح، ونمضي معًا نحو سودان يُشبه أهله، ويليق بتاريخهم، ويفتح ذراعيه لأطفاله الذين يستحقون أن يرثوا وطنًا لا يحمل في صدره نارًا… بل دفءَ إنسانٍ من طينةٍ لا تتغيّر.

Exit mobile version