أخر الأخبار

النخب بين عجز التمثيل وجاذبية القبيلة واستدامة البُنى التقليدية

د. الهادي عبدالله أبوضفائر

نشأت النخب في رحم المدن، بين جدران المعاهد الكولونيالية ومؤسسات التمدّن الحديثة، حيث تشكّل وعيها في فضاءٍ حضري معزول عن نبض الريف وروح الجماعة الشعبية. ورغم ادّعائها التمثيل والتنوير، إلا أنها عجزت عن نسج قاعدة اجتماعية أصيلة تكون صدىً لصوتها، أو مرآةً لأحلامها. لم تخُض تلك النخبة غمار التفاعل المعرفي الطويل مع المجتمع، ولم تصبر على زرع الفكرة ورعايتها حتى تثمر وعياً شعبياً نابعاً من الأعماق. وبدلاً من أن تُصنع جمهورها من رحم التجربة والمعاناة، آثرت الطريق الأقصر، فتحالفت مع الطائفية والقبلية، لا عن قناعة فكرية، بل طمعاً في ولاء جاهز وسلطة مُتاحة. وهكذا تحوّلت من نخبة كان يُفترض أن تعيد تشكيل المجتمع، إلى أداة تعيد إنتاج البُنى التقليدية ذاتها التي ادّعت خصومتها معها.

وحين دانت لها السلطة، وجدت النخبة نفسها أمام مجتمعٍ ليس كتلك القوالب التي رسمتها في مخيّلتها النخبوية؛ مجتمع متعدّد المشارب، متشابك الطبقات، زاخرٌ بتناقضاته وتاريخه وأحلامه المجهضة. لكنها لم تُحسن الإصغاء، ولم تتواضع أمام تعقيده، بل أنكرت جهلها به، واستكبرت أن تعترف بعجزها عن فك شيفرته. فاختارت الطريق الأعوج الأقصر، طريق التحالف مع مؤسسات القوة، لا لتمثيل المجتمع، بل لفرض رؤيتها من أعلى ، متجاوزة بذلك شروط التوافق ومقتضيات المشروعية، وكأن إرادة الهيمنة تُغني عن شرعية الانبثاق من الناس.، لا عبر الإقناع أو التفاعل، بل عبر الفرض والإملاء. لم تُخضع مشروعها لا لإختبار الواقع، ولا لإمتحان التوافق الثقافي والاجتماعي، بل أرادت أن تقفز على المراحل، وتُلقي بظلال رؤاها النخبوية على مجتمع لم يُستشر ولم يُمهّد له. لقد استعجلت القفزة بالعصا، دون أن تلتفت إلى أن الأرض التي تقف عليها رخوة، وأن السماء التي تطمح إليها لم تُفتح بعد. وهكذا استهانت بخصوصيات التنوع السوداني، واستهانت بمفهوم التدرّج الذي تصنع به الأمم وعيها، فكان الفشل ثمرة هذا التعالي.

إن بناء وطنٍ جامع لا يُنجز بالقوة ولا بالخطابة، ولا بتغليب ثقافةٍ واحدة على سائر الثقافات، بل يبدأ من لحظة الاعتراف العميق بأن هذا الوطن ليس صفحة بيضاء، بل لوحة فسيفسائية تتجاور فيها الألوان، وتتشابك فيها الرموز. ولا يُبنى على أنقاض الهويات، بل بتشييد قومية سودانية تتّسع لكل روافد الإنتماء ، وتُقيم بينها جسور المعنى، لا جدران العزلة. وما لم يُعترف بالتنوع لا بوصفه واقعاً طارئاً، بل مبدأً تأسيسياً في صناعة الإجتماع السياسي، فإن أي مشروع وطني سيظل معلقاً بين الإقصاء والتشظي. إن الارتقاء بالتنوع لا يكون بالوعظ، بل بالعمل المتدرّج لإدماجه ضمن بنية وطنية جديدة، تُنصت للخصوصيات دون أن تُؤلّهها، وتفسح للمكونات الإثنية والثقافية حق التعبير والمشاركة لا في الهامش، بل في صُلب المشهد الوطني، حيث تتلاقى التعدديات لا لتتنافر، بل لتؤسس لعقدٍ سوداني جديد، عنوانه الاعتراف، وروحه العدل، وغايته الوحدة بلا تنميط، والاختلاف بلا خصومة.

لقد أرادت النخبة في السودان أن تفرض على الجغرافيا والبشر نموذجاً فوقياً جامداً، يتنكّر لذلك التاريخ العريق من التعدّد، ويسعى إلى صهر التباين في بوتقةٍ واحدة باسم المشروع الوطني. لكنها، في غفلةٍ عن وعي المجتمع وسيرورة التاريخ، لم تُدرك أن الهوية لا تُزرع بالإكراه، ولا تُستولد من رحم القسر، بل تولد من التفاعل الحُر والاعتراف المتبادل. ففرض التصورات المركزية على واقع متنوّع لا يُنتج إلا الرفض والمقاومة، ويُخصب تربة العنف. وفي المقابل، تُظهر لنا التجربة الأمريكية مثالاً بليغاً على إمكانية الجمع بين التعدّد والوحدة، لا عبر القهر بل من خلال الاعتراف القانوني والثقافي بالخصوصيات الإثنية: من الزنوج إلى الإسبان، إلى الآسيويين وغيرهم. لم يكن هذا الاعتراف خصماً من الهوية الوطنية، بل كان جزءاً من صيانتها وحمايتها من التآكل الداخلي. فالقانون العادل لا يُمارس التمييز، لكنه لا يُنكر الفروقات، بل يُديرها بعقلانية، ويُؤطرها ضمن مشترك إنساني ومواطني يعلو على الانتماءات الأولية دون أن يُلغيها.

هنا تتجلى المفارقة الكبرى، ليس القضاء على العنف الاجتماعي مرهوناً بإلغاء القبيلة أو اجتثاث الطائفة، فذلك وهمٌ لا يصمد أمام تعقيدات الواقع وسيرورة التاريخ. إنما يكمن الحل في إعادة هذه البُنى التقليدية إلى أدوارها الطبيعية، الاجتماعي والثقافي، بعد أن تمّ تحميلها ما لا تحتمل من وظائف سياسية زائفة. فالدولة الحديثة، بطبيعتها ومشروعها، لا تُبنى على روابط الدم أو عصبيات العقيدة، بل على أساس المواطنة الحرّة والعقد الاجتماعي المتكافئ. ولذلك، فإن نزع السياسة من القبيلة لا يعني نفيها أو طمسها، بل تحرير المجال العام من أسر التمثيل المختزِل، ومن التواطؤ الذي ظل يتكرّر جيلاً بعد جيل بين النخبة والانتماء التقليدي. ذلك التواطؤ الذي جعل من الولاء القبلي أو الطائفي سلماً للوصول إلى السلطة، ومن الدولة أداة لإعادة إنتاج الانتماءات الأولية بدلاً من تجاوزها نحو أفق وطني أرحب. إن المطلوب ليس إلغاء القبيلة، بل كسر احتكارها للسياسة، وتحرير المجال العام من قبضة الامتياز الوراثي، ليعلو فيه صوت المواطن، لا صوت الشيخ المكرَّس أو السليل الموروث، فيكون المصير العام ثمرةً لإرادة جامعة، لا مِلْكاً خاصاً تُتداول مفاتيحه بين العائلات والعشائر.

abudafair@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 × 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى